فصل: تفسير الآيات رقم (42- 46)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏66- 69‏]‏

‏{‏وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ أَئِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا ‏(‏66‏)‏ أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا ‏(‏67‏)‏ فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا ‏(‏68‏)‏ ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا ‏(‏69‏)‏‏}‏

‏{‏الإنسان‏}‏ اسم للجنس يراد به الكافر، وروي أن سبب هذه الآية هو أن رجالاً من قريش كانوا يقولون هذا ونحوه، وذكر أن القائل هو أبي خلف جاء الى النبي صلى الله عليه وسلم بعظم مرفت فنفخ فيه وقال أيبعث هذا وكذب وسخر، وقيل إن القائل هو العاصي بن وائل، وقرأ الأعرج وأبو عمرو «ائذا مامت» بالاستفهام الظاهر، وقرأت فرقة «إذا» دون ألف استفهام وقد تقدم هذا مستوعباً، وقرأت فرقة بكسر الميم، وقرأت فرقة «مُت» بضمها‏.‏ واللام في قوله ‏{‏لسوف‏}‏ مجلوبة على الحكاية لكلام تقدم بهذا المعنى كأن قائلاً قال للكافر إذا مت يا فلان لسوف تخرج حياً فقرر الكافر على الكلام على جهة الاستبعاد وكرر اللام حكاية للقول الأول‏.‏ وقرأ جمهور الناس «أُخرَج» بضم الهمزة وفتح الراء، وقرأ الحسن بخلاف وأبو حيوة «أَخرُج» بفتح الهمزة وضم الراء‏.‏ وقوله ‏{‏أو لا يذكر‏}‏ احتجاج خاطب الله تعالى به نبيه عليه السلام رداً على مقالة الكافر‏.‏ وقرأ نافع وعاصم وابن عامر «ويذكر»، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة والكسائي «يذكّر» بشد الذال والكاف، وقرأ أبي بن كعب «يتذكر» والنشأة الأولى والإخراج من العدم إلى الوجود أوضح دليل على جواز البعث من القبور ثم قرر وأوجبه السمع، وقوله ‏{‏ولم يك شيئاً‏}‏ دليل على أن المعدوم لا يسمى ‏{‏شيئاً‏}‏ وقال أبو علي الفارسي أراد ‏{‏شيئاً‏}‏ موجوداً‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذه نزعة اعتزالية فتأملها وقوله ‏{‏فوربك‏}‏ الآية وعيد يكون ما نفوه على أصعب وجوهه، والضمير في قوله ‏{‏لنحشرهم‏}‏ عائد للكفار القائلين ما تقدم، ثم أخبر أنه يقرن بهم ‏{‏الشياطين‏}‏ المغوين لهم‏.‏ وقوله ‏{‏جثياً‏}‏ جمع جاث كقاعد وقعود وجالس وجلوس وأصله جثووا وليس في كلام العرب واو متطرفة قبلها ضمة فوجب لذلك أن تعل، ولم يعتد هاهنا بالساكن الذي بينهما لخفته‏.‏ وقلة حوله فقلبت ياء فجاء جثوياً فاجتمع الواو والياء وسبقت إحداهما بالسكون فقلبت ياء ثم أدغمت ثم كسرت التاء للتناسب بين الكسرة والياء‏.‏ وقرأ الجمهور «جُثياً» و«صُلياً» ‏[‏مريم‏:‏ 70‏]‏ بضم الجيم والصاد، وقرأ ابن وثاب وطلحة والأعمش «جِثياً» و«صِلياً» ‏[‏ذاته‏]‏ بكسر الجيم والصاد وأخبر الله تعالى أنه يحضر هؤلاء المنكرين للبعث مع الشياطين فيجثون حول جهنم وهي قعدة الخائف الذليل على ركبتيه كالأسير‏.‏ ونحوه قال قتادة ‏{‏جثياً‏}‏ معناه على ركبهم وقال ابن زيد‏:‏ الجثي شر الجلوس، و«الشيعة» الفرقة المرتبطة بمذهب واحد المتعاونة فيه كأن بعضهم يشيع بعضاً أي ينبه، ومنه تشييع النار بالحطب وهو وقدها به شيئاً بعد شيء، ومنه قيل للشجاع مشيع القلب فأخبر الله أنه ينزع ‏{‏من كل شيعة‏}‏ أعتاها وأولاها بالعذاب فتكون تلك مقدمتها إلى النار‏.‏

قال أبو الأحوص‏:‏ المعنى نبدأ بالأكابر فالأكابر جرماً، ثم أخبر تعالى في الآية بعد، أنه أعلم بمستحقي ذلك وأبصر لأنه لم تخف عليه حالهم من أولها إلى آخرها‏.‏ وقرأ بعض الكوفيين ومعاذ بن مسلم وهارون القاري «أيَّهم» بالنصب، وقرأ الجمهور «أيُّهم» بالرفع، إلا أن طلحة والأعمش سكنا ميم «أيهمْ» واختلف الناس في وجه رفع «أي»، فقال الخليل رفعه على الحكاية بتقدير الذي يقال فيه من أجل عتوه «أيُّهم» أشد وقرنه بقول الشاعر‏:‏ ‏[‏الكامل‏]‏

ولقد أبيت من الفتاة بمنزل *** فأبيت لا حرج ولا محروم

أي فأبيت يقال فيَّ لا حرج ولا محروم‏.‏ ورحج الزجاج قول الخليل وذكر عنه النحاس أنه غلط سيبوبه في قوله في هذه المسألة، قال سيبويه‏:‏ ويلزم على هذا أن يجوز أضرب السارق الخبيث أي الذي يقال له ع‏:‏ وليس بلازم من حيث هذه أسماء مفردة والآية جملة وتسلط الفعل على المفرد أعظم منه على الجملة، ومذهب سيبوبه أن «أيُّهم» مبني على الضم إذ هي اخت «الذي ولما» وخالفتهما في جواز الإضافة فيها فأعربت لذلك، فلما حذف من صلتها ما يعود عليها ضعفت فرجعت الى البناء، وكأن التقدير «أيُّهم» هو أشد‏.‏ قال أبو علي‏:‏ حذف ما الكلام مفتقر إليه فوجب البناء، وقال يونس‏:‏ علق عنها الفعل وارتفعت بالابتداء، قال أبو علي‏:‏ معنى ذلك أنه معمل في موضع من كل شيعة إلا أنه ملغى لأنه لا تعلق جملة إلا أفعال الشك كظننت ونحوها مما لم يتحقق وقوعه، وقال الكسائي ‏{‏لننزعن‏}‏ أريد به لننادين فعومل معاملة الفعل المراد فلم يعمل في «أي» وقال المبرد «أيُّهم» متعلق ب ‏{‏شيعة‏}‏ فلذلك ارتفع، والمعنى من الذين تشايعوا «أيهم» أشد كأنهم يتبارون إلى هذا ويلزمه أن يقدر مفعولاً ل «ننزع» محذوفاً‏.‏ وقرأ طلحة بن مصرف «أيهم أكبر»‏.‏ و‏{‏عتيا‏}‏ مصدر أصله عتوواً وعلل بما علل ‏{‏جثياً‏}‏ وروى أبو سعيد الخدري «أنه يندلق عنق من النار فيقول إني أمرت بكل جبار عنيد» فتلتقطهم الحديث‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏70- 72‏]‏

‏{‏ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيًّا ‏(‏70‏)‏ وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا ‏(‏71‏)‏ ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا ‏(‏72‏)‏‏}‏

أي نحن في ذلك النزع لا نضع شيئاً غير موضعه لأنا قد أحطنا علماً بكل أحد فالأولى بصلي النار نعرفه، و«الصلي» مصدر صلي يصلي إذا باشره قال ابن جريج‏:‏ المعنى ‏{‏أولى‏}‏ بالخلود، وقوله ‏{‏وإن‏}‏ منكم إلا واردها‏}‏ قسم، والواو تقتضيه، ويفسره قول النبي عليه السلام «من مات له ثلاث من الولد لم تمسه النار إلا تحلة القسم» وقرأ ابن عباس وعكرمة وجماعة «وإن منهم» بالهاء على إرادة الكفار فلا شغب في هذه القراءة، وقالت فرقة من الجمهور القارئين ‏{‏منكم‏}‏ المعنى قل لهم يا محمد فإنما المخاطب منكم الكفرة وتأويل هؤلاء أيضاً سهل التناول، وقال الأكثر المخاطب العالم كله ولا بد من «ورود» الجميع، واختلفوا في كيفية «ورود» المؤمنين فقال ابن مسعود وابن عباس وخالد بن معدان وابن جريج وغيرهم‏:‏ «ورود» دخول لكنها لا تعدو على المؤمنين ثم يخرجهم الله منها بعد معرفتهم بحقيقة ما نجوا منه، وروى عن ابن عباس أنه قال في هذه المسألة لنافع بن الأزرق الخارجي‏:‏ أما أنا وأنت فلا بد أن نردها، فأما أنا فينجيني الله منها، وأما أنت فما أظنه ينجيك‏.‏ وقالوا‏:‏ في القرآن أربعة أوراد معناها الدخول هذه أحدها، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يقدم قومه يوم القيامة فأوردهم النار‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 98‏]‏، وقوله ‏{‏ونسوق المجرمين الى جهنم ورداً‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 86‏]‏، وقوله ‏{‏إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 98‏]‏، وقالوا كان من دعاء بعض السلف «اللهم أدخلني النار سالماً وأخرجني منها غانماً»‏.‏ وروى جابر بن عبد الله عن النبي عليه السلام أنه قال «الورود في هذه الآية هو الدخول» وأشفق كثير من العلماء من تحقق الورود والجهل بالصدر، وقالت فرقة بل هو ورود إشراف وإطلاع وقرب كما تقول وردت الماء إذا جئته، وليس يلزم ان تدخل فيه، وقال حسب المؤمنين بهذا هولاً ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولما ورد ماء مدين‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 23‏]‏، وروت فرقة أن الله تعالى يجعل يوم القيامة النار جامدة الأعلى كأنها اهالة‏.‏ فيأتي الخلق كلهم، برهم وفاجرهم، فيقفون عليها ثم تسوخ بأهلها ويخرج المؤمنون الفائزون لم ينلهم ضر، قالوا فهذا هو «الورود» وروت حفصة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «لا يدخل النار أحد من أهل بدر والحديبية»، فقالت يا رسول الله وأين قول الله ‏{‏وإن منكم إلا واردها‏}‏، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «فمه ثم ننجي الذين اتقوا»، ورجح الزجاج هذا القول بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون‏}‏

‏[‏الأنبياء‏:‏ 101‏]‏ ع‏:‏ وهذا ضعيف وليس هذا موضع نسخ وقال عبدالله بن مسعود‏:‏ ورودهم هو جوازهم على الصراط وذلك أن الحديث الصحيح تضمن «أن الصراط مضروب على جسر جهنم فيمر الناس كالبرق وكالريح وكالجواد من الخيل على مراتب ثم يسقط الكفار في جهنم وتأخذهم كلاليب»، قالوا فالجواز على على الصراط هو «الورود» الذي تضمنته هذه الآية، وقال مجاهد‏:‏ ورود المؤمنين هو الحمى التي تصيب في دار الدنيا، وفي الحديث «الحمى من فيح جهنم فأبردوها بالماء»، وفي الحديث «الحمى حظ كل مؤمن من النار»، وروى أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لرجل مريض عاده من الحمى‏:‏ إن الله تعالى يقول هي ناري أسلطها على عبدي المؤمن لتكون حظه من نار الآخرة فهذا هو الورود‏:‏ و«الحتم» الأمر المنفذ المجزوم، وقرأ أبي بن كعب وابن عباس «ثم ننجي» بفتح الثاء من «ثَم» على الظرف، وقرأ ابن أبي ليلى «ثَمة» بفتح الثاء وهاء السكت، وقرأ نافع وابن كثير وجمهور من الناس «ننَجّي» بفتح النون الثانية وشد الجيم، وقرأ يحيى والأعمش «ننْجي» بسكون النون الثانية وتخفيف الجيم، وقرأت فرقة «نُجّي» بنون واحدة مضمونة وجيم مشددة، وقرأ علي بن أبي طالب «ثَم» بفتح الثاء «ننحي» بالحاء غير منقوطة‏.‏ و‏{‏الذين اتقوا‏}‏ معناه اتقوا الكفر، وقال بعض العلماء لا يضيع أحد بين الإيمان والشفاعة‏.‏ ‏{‏ونذر‏}‏ دالة على أنهم كانوا فيها، والظلم هنا هو ظلم الكفر، وقد تقدم القول في قوله ‏{‏جثياً‏}‏، وقرأ ابن عباس «الذين اتقوا منها ونترك الظالمين»‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏73- 80‏]‏

‏{‏وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آَمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا ‏(‏73‏)‏ وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا ‏(‏74‏)‏ قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضْعَفُ جُنْدًا ‏(‏75‏)‏ وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ مَرَدًّا ‏(‏76‏)‏ أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآَيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا ‏(‏77‏)‏ أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا ‏(‏78‏)‏ كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا ‏(‏79‏)‏ وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْدًا ‏(‏80‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِلَّذِينَ آمَنُواْ أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَّقَاماً وَأَحْسَنُ نَدِيّاً وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّن قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثاً وَرِءْياً قُلْ مَن كَانَ فِي الضَّلاَلَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدّاً‏}‏

قرأ الأعرج وابن محيصن وأبو حيوة «يتلى» بالياء، من تحت، وسبب هذه الآية أن كفار قريش لما كان الرجل منهم يكلم المؤمن في معنى الدين فيقرأ عليه القرآن ويبهره بآيات النبي عليه السلام، كان الكافر منهم يقول إن الله إنما يحسن لأحب الخلق إليه وإنما ينعم على أهل الحق ونحن قد أنعم الله علينا دونكم فنحن أغنياء وأنتم فقراء ونحن أحسن مجلساً وأجمل شارة فهذا المعنى ونحوه هو المقصود بالتوقيف في قوله ‏{‏أي الفريقين‏}‏، وقرأ نافع وابن عامر «مَقاماً» بفتح الميم ‏{‏ولا مَقام لكم‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 13‏]‏ بالفتح أيضاً، وهو المصدر من قام أو الظرف منه أي موضع القيام، وهذا يقتضي لفظ المقام إلا أن المعني في هذه الآية يحرز أنه واقع على الظرف فقط، وقرأ أبيّ ‏{‏في مُقام أمين‏}‏ ‏[‏الدخان‏:‏ 51‏]‏ بضم الميم، وقرأ ابن كثير «مُقاماً» بضم الميم وهو ظرف من أقام وكذلك أيضاً يجيء المصدر منه مثل ‏{‏مجراها ومرساها‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 41‏]‏ وقرأ ‏{‏في مَقام أمين‏}‏ ‏[‏الدخان‏:‏ 51‏]‏ ‏{‏ولا مَقام لكم‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 13‏]‏ بالفتح، وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم جميعهن بالفتح، وروى حفص عن عاصم «لا مُقام لكم» بالضم‏.‏ و«الندي» والنادي المجلس فيه الجماعة ومن قول حاتم الطائي‏:‏

فدعيت في أولى الندي *** ولم ينظر إليَّ بأعين خزر

وقوله ‏{‏وكم‏}‏ مخاطبة من الله تعالى لمحمد خبر يتضمن كسر حجتهم واحتقار أمرهم لأن التقدير‏:‏ هذا الذي افتخروا به لا قدر له عند الله وليس بمنج لهم فكم أهلك الله من الأمم لما كفروا وهو أشد من هؤلاء وأكثر أموالاً وأجمل منظراً‏.‏ و«القرن» الأمة يجمعها العصر الواحد، واختلف الناس في قدر المدة التي اذا اجتمعت لأمة سميت تلك الامة قرناً، فقيل مائة سنة، وقيل ثمانون، وقيل سبعون، وقد تقدم القول في هذا غير مرة، و«الأثاث» المال العين والعرض والحيوان وهو اسم عام واختلف هل هو جمع أو إفراد‏.‏ فقال الفراء‏:‏ هو اسم جمع لا واحد له من لفظه كالمتاع، وقال خلف الأحمر‏:‏ هو جمع واحدة أثاثة كحمامة وحمام ومنه قول الشاعر‏:‏ ‏[‏الوافر‏]‏

أشاقتك الظعائن يوم بانوا *** بذي الزي الجميل من الأثاث

وأنشد أبو العباس‏:‏ ‏[‏الوافر‏]‏

لقد علمت عرينة حيث كانت *** بأنا نحن أكثرهم أثاثاً

وقرأ نافع بخلاف وأهل المدينة «وريّاً» بياء مشددة، وقرأ ابن عباس فيما روي عنه وطلحة «وريا» بياء مخففة، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم وحمزة والكسائي «ورءياً» بهمزة بعدها ياء على وزن رعياً، ورويت عن نافع وابن عامر رواها أشهب عن نافع وقرأ أبو بكر عن عاصم «وريئاً» بياء ساكنة بعدها همزة وهو على القلب وزنه فلعاً وكأنه من راع وقال الشاعر‏:‏ ‏[‏الطويل‏]‏

وكل خليل راءني فهو قائل *** من اجلك هذا هامة اليوم أو غد

فأما القراءتان المهموزتان فهما من رؤية العين الرئي اسم المرئي والظاهر للعين كالطحن والسقي، قال ابن عباس الرئي المنظر قال الحسن «ورياً» معناه صوراً وأما المشددة الياء فقيل هي بمعنى المهموزة إلا أن الهمزة خففت لتستوي رؤوس الآي، وذكر منذر بن سعيد عن بعض أهل العلم أنه من «الري» في السقي كأنه أراد أنهم خير منهم بلاداً وأطيب أرضاً وأكثر نعماً إذ جملة النعم إنما هي من الري والمطر، وأما القراءة المخففة الياء فضعيفة الوجه، وقد قيل هي لحن، وقرأ سعيد بن جبير ويزيد البربري وابن عباس أيضاً «وزياً» بالزاي وهو بمعنى الملبس وهيئته تقول زييت بمعنى زينت، وأما قوله ‏{‏قل من كان الضلالة‏}‏ الآية فقول يحتمل معنيين، أحدهما أن يكون بمعنى الدعاء والابتهال كأنه يقول الأضل منا أو منكم «مد» الله له أي أملى له حتى يؤول ذلك إلى عذابه، والمعنى الأخر أن يكون بمعنى الخبر كأنه يقول من كان ضالاً من الأمم فعادة الله فيه أنه «يمد» له ولا يعاجله حتى يفضي ذلك إلى عذابه في الآخرة، فاللام في قوله ‏{‏فليمدد‏}‏ على المعنى الأول لام رغبة في صيغة الأمر، وعلى المعنى الثاني لام أمر دخلت في معنى الخبر ليكون أوكد وأقوى وهذا موجود في كلام العرب وفصاحتها‏.‏

‏{‏حَتَّى إِذَا رَأَوْاْ مَا يُوعَدُونَ إِمَّا العَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَّكَاناً وَأَضْعَفُ جُنداً وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْاْ هُدًى وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ مَّرَدّاً أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لأُوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَداً أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَنِ عَهْداً كَلاَّ سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدّاً وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْداً‏}‏

‏{‏حتى‏}‏ في هذه الآية حرف ابتداء دخلت على جملة وفيها معنى الغاية، و‏{‏إذا‏}‏ شرط، وجوابها في قوله ‏{‏فسيعلمون‏}‏ والرؤية رؤية العين، و‏{‏العذاب‏}‏ و‏{‏الساعة‏}‏ بدل من ‏{‏ما‏}‏ التي وقعت عليها ‏{‏رأوا‏}‏ و‏{‏إما‏}‏ هي المدخلة للشك في أول الكلام والثانية عطف عليها، و‏{‏العذاب‏}‏ يريد به عذاب الدنيا ونصرة المؤمنين عليهم، و«الجند» النصرة والقائمون بأمر الحرب، و‏{‏شر مكاناً‏}‏ بإزاء قولهم ‏{‏خير مقاماً‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 73‏]‏ ‏{‏وأضعف جنداً‏}‏ بإزاء قولهم ‏{‏أحسن ندياً‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 72‏]‏ ولما ذكر ضلالة الكفرة وارتباكهم في الافتخار بنعم الدنيا وعماهم عن الطريق المستقيم عقب ذلك بذكر نعمته على المؤمنين في أنهم يزيدهم ‏{‏هدى‏}‏ في الارتباط إلى الأعمال الصالحة والمعرفة بالدلائل الواضحة وزيادة العلم دأباً‏.‏

قال الطبري عن بعضهم المعنى بناسخ القرآن ومنسوخه ع‏:‏ وهذا مثال وقوله ‏{‏والباقيات الصالحات‏}‏ إشارة الى ذلك الهدى الذي يزيدهم الله تعالى أي وهذه النعم على هؤلاء ‏{‏خير‏}‏ عند الله ‏{‏ثواباً‏}‏ وخير مرجعاً‏.‏ والقول في زيادة الهدى سهل بين الوجوه، وأما ‏{‏الباقيات الصالحات‏}‏ فقال بعض العلماء هو كل عمل صالح يرفع الله به درجة عامله، وقال الحسن هي «الفرائض»، وقال ابن عباس هي «الصلوات الخمس» وروي عن النبي عليه السلام «أنها الكلمات المشهورات سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر» وقد قال رسول الله عليه السلام لأبي الدرداء «خذهن يا أبا الدرداء، قبل أن يحال بينك وبينهن فهن الباقيات الصالحات وهن من كنوز الجنة» وروي عنه عليه السلام أنه قال يوماً «خذوا جنتكم، قالوا يا رسول الله أمن عدو حضر قال‏:‏ من النار، قالوا ما هي يا رسول الله، قال‏:‏ سبحان الله، ولا إله الا الله، والله أكبر، وهن الباقيات الصالحات» وكان أبو الدرداء يقول إذا ذكر هذا الحديث‏:‏ لأهللن، ولأكبرن الله، ولأسبحنه حتى إذا رآني الجاهل ظنني مجنوناً، وقوله ‏{‏أفرأيت الذي كفر‏}‏ الآية، الفاء في قوله ‏{‏أفرأيت‏}‏ عاطفة بعد ألف الأستفهام وهي عاطفة جملة على جملة، و‏{‏الذي كفر‏}‏ يعني به العاصي بن وائل السمهي، قاله جمهور المفسرين، وكان خبره أن خباب بن الأرت كان قيناً في الجاهلية فعمل له عملاً واجتمع له عنده فجاءه يتقاضاه فقال له العاصي لا أنصفك حتى تكفر بمحمد، فقال خباب‏:‏ لا أكفر بمحمد حتى يمييتك الله ثم يبعثك، قال العاصي‏:‏ أو مبعوث أنا بعد الموت‏؟‏ قال خباب نعم، قال‏:‏ فإنه إذا كان ذلك فسيكون لي مال وولد وعند ذلك أقضيك دينك، فنزلت الآية في ذلك، وقال الحسن نزلت الآية في الوليد بن المغيرة المخزومي وقد كانت للوليد أيضاً أقوال تشبه هذا الغرض، وقرأ ابن كثير وابو عمرو «وولَداً» على معنى اسم الجنس بفتح الواو واللام وكذلك في سائر ما في القرآن إلا في سورة نوح ‏{‏ماله وولده‏}‏ ‏[‏نوح‏:‏ 21‏]‏ فإنما قرأ بضم الواو وسكون اللام، وقرأ نافع وعاصم وابن عامر بفتح الواو في كل القرآن، وقرأ حمزة والكسائي «ووُلْداً» بضم الواو وسكون اللام وكذلك في جميع القرآن، وقرأ ابن مسعود «وِلْداً» بكسر الواو وسكون اللام، واختلف مع ضم الواو فقال بعضهم‏:‏ هو جمع «ولد كأسد وأسد» واحتجوا بقول الشاعر‏:‏ ‏[‏مجزوء الكامل‏]‏

فلقد رأيت معاشراً *** قد ثمروا مالاً وولداً

وقال بعضهم هو بمعنى الولد واحتجوا بقول الشاعر‏:‏ ‏[‏الطويل‏]‏

فليت فلاناً كان في بطن أمه *** وليت فلاناً كان ولد حمار

قال أبو علي في قراءة حمزة والكسائي ما كان منه مفرداً قصد به المفرد، وما كان منه جمعاً قصد الجمع، وقال الأخفش‏:‏ الولد الابن والابنة، والولد الأهل والوالد وقال غيره‏:‏ والولد بطن الذي هو منه، حكاه أبو علي في الحجة، وقوله ‏{‏أطلع الغيب‏}‏ توقيف والألف للاستفهام وحذفت ألف الوصل للاستغاء عنها، واتخاذ العهد معناه بالإيمان والأعمال الصالحة، و‏{‏كلا‏}‏ زجر ورد، ثم أخبر تعالى أن قول هذا الكافر سيكتب على معنى حفظه عليه ومعاقبته به‏.‏ وقرأ «سنكتب» بالنون أبو عمرو والحسن وعيسى، وقرأ عاصم والأعمش «سيُكتب» بياء مضمومة، ومد العذاب هو إطالته وتعظيمه وقوله ‏{‏ما يقول‏}‏ أي هذه الأشياء التي سمى أنه يؤتاها في الآخرة يرث الله ما له منها في الدنيا فإهلاكه وتركه لها، فالوراثة مستعارة ويحتمل أن يكون خيبته في الآخرة كوراثة ما أمل‏.‏ وفي حرف ابن مسعود «ونرثه ما عنده»، وقال النحاس ‏{‏نرثه ما يقول‏}‏ معناه نحفظه عليه لنعاقبه، ومنه قول النبي عليه السلام «العلماء ورثة الأنبياء» أي حفظة ما قالوا فكأن هذا المجرم يورث هذا المقالة‏.‏ وقوله ‏{‏فرداً‏}‏ يتضمن ذلته وقلة انتصاره‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏81- 87‏]‏

‏{‏وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آَلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا ‏(‏81‏)‏ كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا ‏(‏82‏)‏ أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا ‏(‏83‏)‏ فَلَا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا ‏(‏84‏)‏ يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا ‏(‏85‏)‏ وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا ‏(‏86‏)‏ لَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا ‏(‏87‏)‏‏}‏

اتخذ افتعل من أخذ لكنه يتضمن إعداداً من المتخذ وليس ذلك في أخذ، والضمير في ‏{‏اتخذوا‏}‏ لعبادة الأوثان والآلهة الأصنام، وكل ما عبد من دون الله، ومعنى قوله ‏{‏عزاً‏}‏ العموم في النصرة والمنفعة وغير ذلك من وجوه الخير، وقوله ‏{‏كلا‏}‏ زجر، وردع، وهذا المعنى لازم ل ‏{‏كلا‏}‏ فإن كان القول المردود منصوصاً عليه بأن المعنى، وإن لم يكن منصوصاً عليه فلا بد من أمر مردود يتضمنه القول كقوله عز وجل ‏{‏كلا إن الإنسان ليطغى‏}‏ ‏[‏العلق‏:‏ 6‏]‏ فإن قوله ‏{‏علم الإنسان ما لم يعلم‏}‏ ‏[‏العلق‏:‏ 5‏]‏ يتضمن مع ما قبله أن الإنسان يزعم من نفسه ويرى أن له حولاً ما ولا يتفكر جداً في أن الله علمه ما لم يعلم وأنعم عليه بذلك وإلا كان معمور جهل، وقرأ الجمهور «كلا» على ما فسرناه، وقرأ أبو نهيك «كَلاً» بفتح الكاف والتنوين حكاه عنه أبو الفتح وهو نعت ل ‏{‏آلهة‏}‏ وحكى عنه أبو عمرو الداني «كُلاً» بضم الكاف والتنوين وهو منصوب بفعل مضمر يدل عليه سيكفرون تقديره يرفضون أو ينكرون أو يجحدون أو نحوه، واختلف المفسرون في الضمير الذي في ‏{‏سيكفرون‏}‏ وفي ‏{‏بعبادتهم‏}‏ فقالت فرقة‏:‏ الأول للكفار والثاني للمعبودين والمعنى أنه سيجيء يوم القيامة من الهول على الكفار والشدة ما يدفعهم الى جحد الكفر وعبادة الأوثان، وذلك كقوله تعالى حكاية عنهم ‏{‏والله ربنا ما كنا مشركين‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 23‏]‏ وقالت فرقة‏:‏ الأول للمعبودين والثاني للكفار والمعنى أن الله تعالى يجعل للأصنام حياة تنكر بها ومعها عبادة الكفار وأن يكون لها من ذلك ذنب، وأما المعبود من الملائكة وغيرهم فهذا منهم بين‏.‏ وقوله ‏{‏ضداً‏}‏ معناه يجيئهم منهم خلاف ما كانوا أملوه فيؤول ذلك بهم الى ذلة ضد ما أملوه من العز وهذه الصفة عامة، وقال قتادة ‏{‏ضداً‏}‏ معناه قرناء، وقال ابن عباس‏:‏ معناه أعواناً، وقال لضحاك‏:‏ أعداء، وقال ابن زيد‏:‏ بلاء، وقيل غير هذا مما لفظ القرآن أعم منه وأجمع للمعنى المقصود، والضد هنا مصدر وصف به الجمع كما يوصف به الواحد، وحكى الطبري عن أبي نهيك أنه قرأ «كل» بالرفع ورفعها بالابتداء، وقوله ‏{‏ألم تر أنا أرسلنا الشياطين‏}‏ الآية، الرؤية في الآية رؤية القلب، و‏{‏أرسلنا‏}‏ معناه سلطنا أو لم نحل بينهم وبينهم فكله تسليط وهو مثل قوله نقيض له شيطان وتعديته ب ‏{‏على‏}‏ دال على أن تسليط، و‏{‏تؤزهم‏}‏ معناه تغليهم وتحركهم الى الكفر والضلال قال قتادة تزعجهم إزعاجاً، قال ابن زيد‏:‏ تشليهم أشلاء ومنه أزيز القدر وهو غليانه وحركته ومنه الحديث أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم «فوجدته يصلي وهو يبكي ولصدره أزيز كأزيز المرجل» وقوله ‏{‏فلا تجعل عليهم‏}‏ أي لا تستبطئ عذابهم وتحب تعجيله، وقوله ‏{‏نعد لهم عداً‏}‏ أي مدة نعمتهم وقبيح أعمالهم لنصيرهم إلى العذاب إما في الدنيا وإلا ففي الأخرة، قال ابن عباس‏:‏ نعد أنفاسهم‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وما تضمنته هذه الألفاظ من الوعيد بعذاب الآخرة هو العامل في قوله ‏{‏يوم‏}‏ ويحتمل أن يعمل فيه لفظ مقدر تقديره واذكر أو احذر ونحو هذا، و«الحشر» الجمع، وقد صار في عرف ألفاظ الشرع البعث من القبور، وقرأ الحسن يوم «الحشر المتقون ويساق المجرمون»، وروي عنه «ويسوق المجرمين» بالياء‏.‏ و«المتقون» هم المؤمنون الذين غفر لهم، وظاهر هذه الوفادة أنها بعد انقضاء الحساب، وإنما هي النهوض الى الجنة، وكذلك سوق المجرمين إنما هو لدخول النار‏.‏ و‏{‏وفداً‏}‏ قال المفسرون معناه ركباناً وهي عادة الوفود لأنهم سراة الناس وأحسنهم شكلاً فشبه أهل الجنة بأولئك لا أنهم في معنى الوفادة إذ هو مضمن الانصراف، وإنما المراد تشبيههم بالوفد هيئة وكرامة، وروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنهم يجيئون ركباناً على النوق المحلاة بحلية الجنة خطمها من ياقوت وزبرجد ونحو هذا، وروي عن عمر بن قيس الملائي أنهم يركبون على تماثيل من أعمالهم الصالحة هي في غاية الحسن، وروي «أنهم يركب كل أحد منهم ما أحب فمنهم من يركب الإبل ومن يركب الخيل ومن يركب السفن فتجيء عائمة بهم»، وقد ورد في الضحايا أنها مطاياكم إلى الجنة، وفي أكثرها بعد، لكن ذكرناه بحسب الجمع للأقوال و«السوق» يتضمن هواناً لأنهم يحفزون من ورائهم، و«الورد» العطاش قاله ابن عباس وأبو هريرة والحسن، وهم القوم الذين يحتفزون من عطشهم لورود لماء، ويحتمل أن يكون المصدر المعنى نوردهم ‏{‏ورداً‏}‏ وهكذا يجعله من رأى في القرآن أربعة أوراد في النار وقد تقدم ذكر ذلك في هذه السورة، واختلف المتأولون في الضمير في قوله ‏{‏يملكون‏}‏ فقالت فرقة‏:‏ هو عائد على المجرمين، أي ‏{‏لا يملكون‏}‏ أن يشفع لهم ولا سبيل لهم إليها، وعلى هذا التأويل فهم المشركون خاصة، ويكون قوله ‏{‏إلا من اتخذ عند الرحمن عهداً‏}‏ استثناء منقطعاً، أي لكن من اتخذ عهداً يشفع له، والعهد على هذا الإيمان قال ابن عباس‏:‏ العهد لا إله إلا الله‏.‏ وفي الحديث «يقول الله تعالى يوم القيامة من كان له عندي عهد فليقم» وفي الحديث «خمس صلوات كتبهن الله على العباد فمن جاء بهن تامة كان له عند الله عهد أن يدخل الجنة» والعهد أيضاً الإيمان وبه فسر قوله ‏{‏لا ينال عهدي الظالمين‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 124‏]‏ ويحتمل أن يكون «المجرمون» يعم الكفرة والعصاة ثم أخبر أنهم ‏{‏لا يملكون الشفاعة‏}‏ إلا العصاة المؤمنون فإنهم يشفع فيهم فيكون الإستثناء متصلاً، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم

«لا أزال أشفع حتى أقول يا رب شفعني فيمن قال لا إله إلا الله» فيقول يا محمد أنها ليست لك ولكنها لي‏.‏ وقالت فرقة‏:‏ الضمير في قوله ‏{‏لا يملكون‏}‏ للمتقين، قوله ‏{‏إلا من اتخذ عند الرحمن عهداً‏}‏ أي إلا من كان له عمل صالح مبرز يحصل به في حيز من يشفع وقد تظاهرت الأحاديث بأن أهل الفضل والعلم والصلاح يشفعون فيشفعون، روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ «إن في أمتي رجلاً يدخل الله بشفاعته الجنة اكثر من بني تميم»، قال قتادة‏:‏ وكنا نحدث أن الشهيد يشفع في سبعين، وقال بعض هذه الفرقة معنى الكلام ‏{‏إلا من اتخذ عند الرحمن عهداً‏}‏ أي لا يملك المتقون الشفاعة إلا لهذه الصنيفة فيجيء ‏{‏من‏}‏ في التأويل الواحد للشافعين، وفي الثاني للمشفوع فيهم، وتحتمل الآية أن يراد ب ‏{‏من‏}‏ محمد عليه السلام وبالشفاعة الخاصة لمحمد العامة للناس، ويكون الضمير في ‏{‏يملكون‏}‏ لجميع أهل المواقف، ألا ترى أن سائر الأنبياء يتدافعون الشفاعة حتى تصير إليه فيقوم إليها مدلاً، فالعهد على هذا النص على أمر الشفاعة، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏عسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً‏}‏ ‏[‏الأسراء‏:‏ 79‏]‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏88- 96‏]‏

‏{‏وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا ‏(‏88‏)‏ لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا ‏(‏89‏)‏ تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا ‏(‏90‏)‏ أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا ‏(‏91‏)‏ وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا ‏(‏92‏)‏ إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آَتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا ‏(‏93‏)‏ لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا ‏(‏94‏)‏ وَكُلُّهُمْ آَتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا ‏(‏95‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا ‏(‏96‏)‏‏}‏

الضمير في ‏{‏قالوا‏}‏ للكفار من العرب في قولهم للملائكة بنات الله وللنصارى ولكل من كفر بهذا النوع من الكفر، وقوله ‏{‏جئتم شيئاً‏}‏ بعد الكناية عنهم بمعنى قل لهم يا محمد، و«الإد» الأمر الشنيع الصعب وهي الدواهي والشنع العظيمة، ويروى عن النبي عليه السلام أن هذه المقالة أول ما قيلت في العالم شاك الشجر وحدثت، وفي نسخة، وحدثت مرائره واستعرت جهنم وغضبت الملائكة وقرأ الجمهور، «إداً» بكسر الهمزة، وقرأ أبو عبدالرحمن «أداً» بفتح الهمزة، ويقال إد وأد وآد بمعنى، وقرأ ابن كثير هنا وفي حم عسق «تكاد» بالتاء «يتفطرون» بياء وفتح الطاء وشدها، ورواها حفص عن عاصم، وقرأ أبو عمرو وعاصم في رواية أبي بكر «تكاد» بالتاء «ينفطِرن» بياء ونون وكسر الطاء، وقرأ نافع والكسائي «يكاد» بالياء على زوال علامة التأنيث «يتفطَّرن» بالياء والتاء وشد الطاء وفتحها في الموضعين، وقرأ حمزة وابن عامر في مريم مثل أبي عمرو وفي عسق مثل ابن كثير وقال أبو الحسن الأخفش «تكاد» بمعنى تريد، وكذلك قوله تعالى ‏{‏أكاد أخفيها‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 15‏]‏ وأنشد على أن كاد بمعنى أراد قول الشاعر‏:‏ ‏[‏الكامل‏]‏

كادت وكدت وتلك خير إرادة *** لو عاد من زمن الصبابة ما مضى

ولا حجة في هذا البيت وهذا قول قلق، وقال الجمهور‏:‏ إنما هي استعارة لشنعة الأمر أي هذا حقه لو فهمت الجمادات قدره وهذا المعنى مهيع للعرب فمنه قول جرير‏:‏ ‏[‏الكامل‏]‏

لما أتى خبر الزبير تواضعت *** سور المدينة والجبال الخشع

ومنه قول الآخر‏:‏ ‏[‏الطويل‏]‏

ألم تر صدعاً في السماء مبيناً *** على ابن لبينى الحارث بن هشام

وقال الآخر‏:‏ ‏[‏الوافر‏]‏

وأصبح بطن مكة مقشعراً *** كأن الأرض ليس بها هشام

والانفطار الانشقاق على غير رتبة مقصودة والهد الانهدام والتفرق في سرعة، وقال محمد بن كعب‏:‏ كاد أعداد الله أن يقيموا علينا الساعة، وقوله ‏{‏وما ينبغي‏}‏ نفي على جهة التنزيه له عن ذلك، وقد تقدم ذكر هذا المعنى، وأقسام هذا اللفظ في هذه السورة، وقوله ‏{‏إن كل من في السموات‏}‏ الآية ‏{‏إن‏}‏ نافية بمعنى ما، وقرأ الجمهور «آتي الرحمن» بالإضافة، وقرأ طلحة بن مصرف «آتٍ الرحمن» بتنوين «آت» والنصب في النون، وقرأ ابن مسعود «لما آتى الرحمن»، واستدل بعض الناس بهذه الآية على أن الولد لا يكون عبداً وهذا انتزاع بعيد، و‏{‏عبداً‏}‏ حال، ثم أخبر تعالى عن إحاطته ومعرفته بعبيده فذكر الإحصاء، ثم كرر المعنى بغير اللفظ، وقرأ ابن مسعود «لقد كتبهم وعدهم»، وفي مصحف أبيّ «لقد أحصاهم فأجملهم عدداً»‏.‏

وقوله ‏{‏عداً‏}‏ تأكيد للفعل وتحقيق له، وقوله ‏{‏فرداً‏}‏ يتضمن معنى قلة النصر والحول والقوة لا مجير له مما يريد الله به وقوله ‏{‏سيجعل لهم الرحمن وداً‏}‏ ذهب أكثر المفسرين الى أن هذا هو القبول الذي يضعه الله لمن يحب من عباده حسبما في الحديث المأثور، وقال عثمان بن عفان إنها بمنزلة قول النبي عليه السلام «من أسر سريرة ألبسه الله رداءها» وفي حديث أبي هريرة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «ما من عبد إلا وله في السماء صيت فان كان حسناً وضع في الأرض حسناً وإن سيئاً وضع كذلك» وقال عبدالرحمن بن عوف‏:‏ إن الآية نزلت فيه وذلك أنه لما هاجر بمكة استوحش بالمدينة فشكا ذلك الى النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت الآية في ذلك، أي ستستقر نفوس المؤمنين ويودون حالهم ومنزلتهم، وذكر النقاش أنها نزلت في علي بن أبي طالب، قال ابن الحنفية‏:‏ لا تجد مؤمناً إلا وهو يحب علياً وأهل بيته، وقرأ الجمهور «وُداً» بضم الواو، وقرأ أبو الحارث الحنفي بفتح الواو، ويحتمل أن تكون الآية متصلة بما قبلها في المعنى، أي إن الله تعالى لما أخبر عن إيتان ‏{‏كل من في السماوات والأرض‏}‏ في حالة العبودية والانفراد أنس المؤمنين بأنه سيجعل لهم في ذلك اليوم ‏{‏وداً‏}‏ وهو ما يظهر عليهم من كرامته لأن محبة الله لعبد إنما هي ما يظهر عليه من نعمه وأمارات غفرانه له‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏97- 98‏]‏

‏{‏فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا ‏(‏97‏)‏ وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا ‏(‏98‏)‏‏}‏

الضمير في ‏{‏يسرنا‏}‏، وهذا كقوله ‏{‏حتى توارت بالحجاب‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 32‏]‏ لأن المعنى يقتضي المراد وإن لم يتقدم ذكره، ووقع التيسير في كونه بلسان محمد عليه السلام وبلغته المفهومة المبينة، وبشارة ‏{‏المتقين‏}‏ هي الجنة والنعيم الدائم والعز في الدنيا، و«القوم اللد» هم قريش ومعناه مجادلين مخاصمين بباطل، والألد الخاصم المبالغ في ذلك، وقال مجاهد ‏{‏لداً‏}‏ فجاراً ع‏:‏ وهذا عندي فجور الخصومة ولا يلد إلا المبطل‏.‏ والألد والألوى، بمعنى واحد، وفي الحديث «أبغض الرجال إلى الله تعالى الألد الخصم» ثم لما وصفهم الله تعالى بأنهم لد وهي صفة سوء بحكم الشرع والحق وجب أن يفسد عليهم بالوعيد والتمثيل بإهلاك من كان أشد منهم وألد وأعظم قدراً ما كان يسرهم في أنفسهم من الوصف بلد فإن العرب لجهالتها وعتوها وكفرها كانت تتمدح باللد وتراه إدراكاً وشهامة فمن ذلك قوله الشاعر‏:‏ ‏[‏الخفيف‏]‏

إن تحت الأحجار حزماً وعزماً *** وخصيماً ألد ذا مغلاق

فمثل لهم بإهلاك من قبلهم ليحتقروا أنفسهم، ويبين صغر شأنهم وعبر المفسرون عن ‏(‏اللد‏)‏ بالفجرة وبالظلمة وتلخيص معناها ما ذكرناه، و‏(‏القرن‏)‏ الأمة، و‏(‏الركز‏)‏ الصوت الخفي دون نطق بحروف ولا فم وإنما هو صوت الحركات وخشفتها ومنه قول لبيد‏:‏

فتوجست ركز الأنيس فراعها *** عن ظهر غيب والأنيس سقامها

فكأنه يقول أو تسمع من أخبارهم قليلاً أو كثيراً أو طرفاً خفياً ضعيفاً وهذا يراد به من تقدم أمره من الأمم ودرس خبره، وقد يحتمل أن يريد هل بقي لأحد منهم كلام أو تصويت بوجه من الوجوه فيدخل في هذا من عرف هلاكه من الأمم‏.‏

سورة طه

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 8‏]‏

‏{‏طه ‏(‏1‏)‏ مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ لِتَشْقَى ‏(‏2‏)‏ إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى ‏(‏3‏)‏ تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَا ‏(‏4‏)‏ الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ‏(‏5‏)‏ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى ‏(‏6‏)‏ وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى ‏(‏7‏)‏ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى ‏(‏8‏)‏‏}‏

اختلف الناس في قوله ‏{‏طه‏}‏ بحسب اختلافهم في كل الحروف المتقدمة في أوائل السور إلا قول من قال هناك إن الحروف إشارة إلى حروف المعجم كما تقول أ‏.‏ ب‏.‏ ج‏.‏ د‏.‏ فإنه لا يترتب هنا لأن ما بعد ‏{‏طه‏}‏ من الكلام لا يصح أن يكون خبراً عن ‏{‏طه‏}‏ واختصت أيضاً ‏{‏طه‏}‏ بأقوال لا تترتب في أوائل السور المذكورة، فمنها قول من قال ‏{‏طه‏}‏ اسم من أسماء محمد عليه السلام، وقوله من ‏{‏طه‏}‏ معناه «يا رجل بالسريانية» وقيل بغيرها من لغات العجم، وحكي أنها لغة يمينة في عك وأنشد الطبري‏:‏ ‏[‏الطويل‏]‏

دعوت بطه في القتال فلم يجب *** فخفت عليه أن يكون موائلاً

ويروى مزايلاً وقال الآخر‏:‏ ‏[‏البسيط‏]‏

إن السفاهة طه من خلائقكم *** لا بارك الله في القوم الملاعين

وقالت فرقة‏:‏ سبب نزول الآية إنما هو ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتحمله من مشقة الصلاة حتى كانت قدماه تتورم ويحتاج الى الترويح بين قدميه فقيل له طاً الأرض أي لا تتعب حتى تحتاج الى الترويح، فالضمير في ‏{‏طه‏}‏ للأرض وخففت الهمزة فصارت ألفاً ساكنة، وقرأت «طه» وأصله طأ فحذفت الهمزة وأدخلت هاء السكت، وقرأ ابن كثير وابن عامر «طَهَ» بفتح الطاء والهاء وروي ذلك عن قالون عن نافع، ووروي عن يعقوب عن كسرهما، وروي عنه بين الكسر والفتح، وأمالت فرقة، والتفخيم لغة الحجاز والنبي عليه السلام، وقرأ عاصم وحمزة والكسائي بكسر الطاء والهاء، وقرأ أبو عمر و«طَهِ» بفتح الطاء وكسر الهاء، وقرأت فرقة «طَهْ» بفتح الطاء وسكون الهاء، وقد تقدمت، وروي عن الضحاك وعمرو بن فائد انهما قرأ «طاوي»‏.‏ وقوله ‏{‏لتشقى‏}‏ قالت فرقة‏:‏ معناه لتبلغ عن نفسك في العبادة والقيام في الصلاة، وقالت فرقة‏:‏ إنما سبب الآية أن قريش لما نظرت إلى عيش رسول صلى الله عليه وسلم وشظفه وكثرة عبادته قالت‏:‏ إن محمداً مع ربه في شقاء فنزلت الآية رادة عليهم، أي إن الله لم ينزل القرآن ليجعل محمداً شقياً بل ليجعله أسعد بني آدم بالنعيم المقيم في أعلى المراتب، فالشقاء الذي رأيتم هو نعيم النفس ولا شقاء مع ذلك ع‏:‏ فهذا التأويل أعم من الأول في لفظة الشقاء، وقوله ‏{‏إلا تذكرة‏}‏ يصح أن ينصب على البدل من موضع ‏{‏لتشقى‏}‏ ويصح أن ينصب بفعل مضمر تقديره لكن أنزلناه تذكرة، و‏{‏يخشى‏}‏ يتضمن الإيمان والعمل الصالح إذ الخشية باعثة على ذلك، وقوله ‏{‏تنزيلاً‏}‏ نصب على المصدر، وقوله ‏{‏ممن خلق الأرض والسماوات العلى‏}‏ صفة أقامها مقام الموصوف، وأفاد ذلك العبرة والتذكرة وتحقير الأوثان وبعث النفوس على النظر، و‏{‏العلى‏}‏ جمع عليا فعلى‏.‏

وقوله ‏{‏الرحمنُ‏}‏ رفع بالابتداء ويصح أن يكون بدلاً من الضمير المستقر في ‏{‏خلق‏}‏‏.‏ وقوله ‏{‏استوى‏}‏ قالت فرقة‏:‏ هو بمعنى استولى، وقال أبو المعالي وغيره من المتكليمن‏:‏ هو بمعنى استواء القهر والغلبة، وقال سفيان الثوري‏:‏ فعل فعلاً في العرش سماه استواء وقال الشعبي وجماعة غيره‏:‏ هذا من متشابه القرآن يؤمن به ولا يعرض لمعناه، وقال مالك بن أنس لرجال سأله عن هذا الاستواء فقال له مالك‏:‏ الاستواء معلوم والكيفية مجهولة والسؤال عن هذا بدعة وأظنك رجل سوء أخرجوه عني، فأدبر السائل وهو يقول يا أبا عبدالله لقد سألت عنها أهل العراق وأهل الشام فما وفق احد توفيقك‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وضعف أبو المعالي قول من قال لا يتكلم في تفسيرها بأن قال إن كل مؤمن يجمع على أن لفظة الاستواء ليست على عرفها في معهود الكلام العربي، فإذا فعل هذا فقد فسر ضرورة ولا فائدة في تأخره على طلب الوجه والمخرج البين، بل في ذلك البأس على الناس وإيهام للعوام، وقد تقدم القول في مسألة الأستواء‏.‏ وقوله ‏{‏له ما في السماوات‏}‏ الآية تماد في الصفة المذكورة المنبهة على الخالق المنعم، وفي قوله ‏{‏ما تحت الثرى‏}‏ قصص في أمر الحوت ونحوه اختصرته لعدم صحته، والآية مضمنة أن كل موجود محدث فهو لله بالملك والاختراع ولا قديم سواه تعالى‏.‏ و‏{‏الثرى‏}‏ التراب الندي، وقوله ‏{‏وإن تجهر بالقول‏}‏ معناه وإن كنتم أيها الناس إذ أردتم إعلام أحد بأمر أو مخاطبة أوثانكم وغيرها فأنتم تجهرون بالقول فإن الله الذي هذه صفاته ‏{‏يعلم السر وأخفى‏}‏ فالمخاطبة ب ‏{‏تجهر‏}‏ لمحمد عليه السلام وهي مراد جميع الناس إذ هي آية اعتبار، واختلف الناس في ترتيب ‏{‏السر‏}‏ وما هو ‏{‏أخفى‏}‏ منه، فقالت فرقة ‏{‏السر‏}‏ هو الكلام الخفي كقراءة السر في الصلاة، و«الأخفى» هو ما في النفس، وقالت فرقة وهو ما في النفس متحصلاً، و«الأخفى» هو ما سيكون فيها في المستأنف، وقالت فرقة ‏{‏السر‏}‏ هو ما في نفوس البشر، وكل ما يمكن أن يكون فيها في المستأنف بحسب الممكنات من معلومات البشر، و«الأخفى» هو ما من معلومات الله لا يمكن أن يعلمه البشر البتة ع‏:‏ فهذا كله معلوم لله عز وجل‏.‏

وقد تؤول على بعض السلف أنه جعل ‏{‏أخفى‏}‏ فعلاَ ماضياً وهذا ضعيف، و‏{‏الأسماء الحسنى‏}‏ يريد بها التسميات التي تضمنتها المعاني التي هي في غاية الحسن ووحد الصفة مع جمع الموصوف لما كانت التسميات لا تعقل، وهذا جار مجرى ‏{‏مآرب أخرى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 18‏]‏ ‏{‏ويا جبال أوبي معه‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 10‏]‏ وغيره، وذكر أهل العلم أن هذه الأسماء هي التي قال فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن لله تسعة وتسعين إسماً مائة إلا واحداً من أحصاها دخل الجنة» وذكرها الترمذي وغيره مسنده‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏9- 14‏]‏

‏{‏وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى ‏(‏9‏)‏ إِذْ رَأَى نَارًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آَنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آَتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى ‏(‏10‏)‏ فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى ‏(‏11‏)‏ إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى ‏(‏12‏)‏ وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى ‏(‏13‏)‏ إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي ‏(‏14‏)‏‏}‏

هذا الأستفهام هو توقيف مضمنه تنبيه النفس إلى استماع ما يورد عليها، وهذا كما تبدأ الرجل إذا أدرت إخباره بأمر غريب فتقول أعلمت كذا وكذا، ثم تبدأ تخبره‏.‏ والعامل في ‏{‏إذ‏}‏ ما تضمنه قوله ‏{‏حديث‏}‏ من معنى الفعل، وتقديره ‏{‏وهل أتاك‏}‏ ما فعل موسى ‏{‏إذ رأى ناراً‏}‏ أو نحو هذا، وكان من قصة موسى عليه السلام أنه رجل من مدين بأهله بنت شعيب وهو يريد أرض مصر وقد طالت مدة جنايته هنالك فرجاً عن طريقه في ليلة مظلمة وندية ويروى أنه فقد الماء فلم يدر أين يطلبه فبينما هو كذلك وقد قدح بزنده فلم يور شيئاً ‏{‏إذ رأى ناراً فقال لأهله امكثوا‏}‏ أي أقيموا، وذهب هو إلى النار فإذا هي مضطرمة في شجرة خضراء يانعة قيل كانت من عناب، وقيل من عوسج، وقيل من عليقة، فلما دنا منها تباعدت منه ومشت، فإذا رجع عنها اتبعته فلما رأى ذلك أيقن أن هذا أمر من أمور الله تعالى الخارقة للعادة، وانقضى أمره كله في تلك الليلة، هذا قول الجمهور وهوالحق، وحكى النقاش عن ابن عباس أنه قال‏:‏ أقام في ذلك الأمر حولاً ومكثه أهله ع‏:‏ وهذا غير صحيح عن ابن عباس وضعيف في نفسه‏.‏ و‏{‏آنست‏}‏ معناه أحسست ومنه قول الحارث بن حلزة‏:‏ ‏[‏الخفيف‏]‏

آنست نبأة وروعها القَنْ *** ناص ليلاً وقد دنا الإمساء

والنار على البعد لا تحس إلا بالأبصار، فلذلك فسر بعضهم اللفظ برأيت، و«آنس» أعم من ‏{‏رأى‏}‏ لأنك تقول آنست من فلان خيراً أو شراً‏.‏ و«القبس» الجذوة من النار تكون على رأس العود أو القصبة أو نحوه، و«الهدى» أراد الطريق، أي لعلي أجد ذا هدى أي مرشداً لي أو دليلا، وان لم يكن مخبراً‏.‏ و«الهدى» يعم هذا كله وإنما رجا موسى عليه السلام هدى نازلته فصادف الهدى على الإطلاق، وفي ذكر قصة موسى بأسرها في هذه السورة تسلية للنبي عما لقي في تبليغه من المشقات وكفر الناس فإنما هي له على جهة التمثيل في أمره‏.‏ وروي عن نافع وحمزة «لأهلهُ امكثوا» بضمة الهاء وكذلك في القصص، وكسر الباقون الهاء فيهما‏.‏ وقوله تعالى ‏{‏فلما أتاها‏}‏ الضمير عائد على النار، وقوله ‏{‏نودي‏}‏ كناية عن تكليم الله له، وفي ‏{‏نودي‏}‏ ضمير يقوم مقام الفاعل، وإن شئت جعلته موسى إذ قد جرى ذكره، وقرأ نافع وعاصم وابن عامر وحمزة والكسائي «إني» بكسر الألف على الإبتداء، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو «أني» بفتح الألف على معنى «لأجل أني» ‏{‏أنا ربك فاخلع نعليك‏}‏، و‏{‏نودي‏}‏ قد توصل بحرف الجر وأنشد أبو علي‏:‏ ‏[‏الكامل‏]‏

ناديت باسم ربيعة بن مكدم *** ان المنوه باسمه الموثوق

واختلف المتأولون في السبب الذي من أجله أمر بخلع النعلين، فقالت فرقة كانتا من جلد حمار ميت فأمر بطرح النجاسة، وقالت فرقة بل كانت نعلاه من جلد بقرة ذكي لكن أمر بخلعها لينال بركة الوادي المقدس وتمس قدماه تربة الوادي، وتحتمل الآية معنى آخر هو الأليق بها عندي، وذلك أن الله تعالى أمره أن يتواضع لعظم الحال التي حصل فيها، والعرف عند الملوك أن تخلع النعلان ويبلغ الإنسان إلى غاية تواضعه، فكأن موسى عليه السلام أمر بذلك على هذا الوجه، ولا نبالي كانت نعلاه من ميتة أو غيرها، و‏{‏المقدس‏}‏ معناه المطهر، و‏{‏طوى‏}‏ معناه مرتين مرتين، فقالت فرقة معناه قدس مرتين، وقالت فرقة معناه طويته أنت، أي سرت به، أي طويت لك الأرض مرتين من طيك، وقرأ عاصم وابن عامر وحمزة والكسائي «طوىً» بالتنوين على أنه اسم المكان، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو «طوى» على أنه اسم البقعة دون تنوين، وقرأ هؤلاء كلهم بضم الطاء، وقرأ أبو زيد عن أبي عمرو بكسر الطاء، وقرأت فرقة «طاوي» وقالت فرقة هو اسم الوادي، و«طوى» على التأويل الأول بمنزلة قولهم ثنى وثنى أي مثنياً، وقرأ السبعة غير حمزة «وأنا اخترتك» ويؤيد هذه القراءة تناسبها مع قوله ‏{‏أنا ربك‏}‏ وفي مصحف أبي بن كعب «وأني اخترتك»، وقرأ حمزة «وأنّا اخترناك» بالجمع وفتح الهمزة وشد النون، والآية على هذا بمنزلة قوله ‏{‏سبحان الذي أسرى بعبده‏}‏ ‏[‏الأسراء‏:‏ 1‏]‏ ثم قال ‏{‏وآتينا‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 2‏]‏ فخرج من إفراد إلى جمع، وقرأت فرقة وإنا اخترناك «يكسر الألف‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وحدثني أبي رضي الله عنه قال‏:‏ سمعت أبا الفضل بن الجوهري يقول‏:‏ لما قيل لموسى ‏{‏فاستمع‏}‏ وقف على حجر، واستند إلى حجر، ووضع يمينه على شماله وألقى ذقنه على صدره، ووقف يستمع وكان كل لباسه وصوفاً‏.‏ وقرأت فرقة» بالواد المقدس طاوي «وقوله ‏{‏وأقم الصلاة لذكري‏}‏ يحتمل أن يريد لتذكيري فيها أو يريد لأذكرك في عليين بها فالمصدر على هذا يحتمل الإضافة إلى الفاعل أو إلى المفعول واللام لام السبب، وقالت فرقة معنى قوله ‏{‏لذكري‏}‏ أي عند ذكري إذا ذكرتني وأمري لك بها، فاللام على هذا بمنزلتها في قوله ‏{‏أقم الصلاة لدلوك الشمس‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 78‏]‏ وقرأت فرقة» للذكرى «، وقرأت فرقة» لذكرى «بغير تعريف، وقرأت فرقة» للذكر «‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏15- 18‏]‏

‏{‏إِنَّ السَّاعَةَ آَتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى ‏(‏15‏)‏ فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى ‏(‏16‏)‏ وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى ‏(‏17‏)‏ قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآَرِبُ أُخْرَى ‏(‏18‏)‏‏}‏

في قوله ‏{‏إن الساعة آتية‏}‏ تحذير ووعيد، أي اعبدني فإن عقابي وثوابي بالمرصاد، و‏{‏الساعة‏}‏ في هذه الآية القيامة بلا خلاف، وقرأ ابن كثير والحسن وعاصم «أكاد أخفيها» بفتح الهمزة بمعنى أظهرها أي أنها من صحة وقوعها وتيقن كونه تكاد تظهر لكن تنحجب إلى الأجل المعلوم، والعرب تقول خفيت الشيء بمعنى أظهرته ومنه قول امرئ القيس‏:‏ ‏[‏الطويل‏]‏

خفاهن من أنفاقهن كأنما *** خفاهن ودق من سحاب مجلّب

ومنه قوله أيضاً‏:‏ ‏[‏المتقارب‏]‏

فإن تدفنوا الداء لا نخفه *** وإن توقدوا الحرب لا نقعد

قال أبو علي‏:‏ المعنى أزيل خفاءها، وهو ما تلف به القربة ونحوها، وقرأ الجمهور «أُخفيها» بضم الهمزة، واختلف المتأولون في معنى الآية فقالت فرقة‏:‏ معناه أظهرها وأخفيت من الأضداد، وهذا قول مختل، وقالت فرقة معناه، ‏{‏أكاد أخفيها‏}‏ من نفسي على معنى العبارة من شدة غموضها على المخلوقين، فقالت فرقة‏:‏ المعنى ‏{‏إن الساعة آتية أكاد‏}‏ وتم الكلام بمعنى ‏{‏أكاد‏}‏ أنفذها لقربها وصحة وقوعها ثم استأنف الإخبار بأن يخفيها، وهذا قلق، وقالت فرقة ‏{‏أكاد‏}‏ زائدة لا دخول لها في المعنى بل تضمنت الآية الإخبار بأن الساعة آتية وأن الله يخفي وقت إتيانها عن الناس، وقالت فرقة ‏{‏أكاد‏}‏ بمعنى أريد، فالمعنى أريد إخفاءها عنكم ‏{‏لتجزى كل نفس بما تسعى‏}‏ واستشهد قائل هذه المقالة بقول الشاعر‏:‏ ‏[‏الكامل‏]‏

كادت وكدت وتلك خير إرادة *** وقد تقدم هذا المعنى، وقالت فرقة ‏{‏أكاد‏}‏ على بابها بمعنى أنها متقاربة ما لم يقع، لكن الكلام جار على استعارة العرب ومجازها، فلما كانت الآية عبارة عن شدة خفاء أمر القيامة ووقتها وكان القطع بإتيانها مع جهل الوقت أهيب على النفوس بالغ قوله تعالى في إبهام وقتها فقال ‏{‏أكاد أخفيها‏}‏ حتى لا تظهر البتة ولكن ذلك لا يقع ولا بد من ظهورها، هذا تلخيص هذا المعنى الذي أشار إليه بعض المفسرين وهو الأقوى عندي، ورأى بعض القائلين بأن المعنى ‏{‏أكاد أخفيها‏}‏ من نفسي ما في القول من القلق فقالوا معنى من نفسي من تلقائي ومن عندي ع وهذا رفض للمعنى الأول ورجوع إلى هذا القول الذي اخترناه أخيراً فتأمله، واللام في قوله ‏{‏لتجزى‏}‏ متعلقة ب ‏{‏آتية‏}‏ وهكذا يترتب الوعيد‏.‏ و‏{‏تسعى‏}‏ معناه تكسب وتجترح، والضمير في قوله ‏{‏عنها‏}‏ يريد الإيمان بالساعة فأوقع الضمير عليها، ويحتمل أن يعود على ‏{‏الصلاة‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 14‏]‏ وقالت فرقة المراد عن لا إله الا الله ع‏:‏ وهذا متجه، والأولان أبين وجهاً‏.‏ وقوله ‏{‏فتردى‏}‏ معناه تهلك والردى الهلاك ومنه قوله دريد بن الصمة‏:‏ ‏[‏الطويل‏]‏

تنادوا فقالوا أدرت الخيل فارساً *** فقلت أعبد الله ذلكمُ الردي

وهذا الخطاب كله لموسى عليه السلام وكذلك ما بعده، وقال النقاش‏:‏ الخطاب ب ‏{‏فلا يصدنك‏}‏ لمحمد عليه السلام وهذا بعيد، وفي مصحف عبدالله بن مسعود «أكاد أخفيها من نفسي» وعلى هذه القراءة تركب ذلك القول المتقدم، وقوله عز وجل ‏{‏وما تلك بيمينك يا موسى‏}‏ تقرير مضمنه التنبيه وجمع النفس لتلقي ما يورد عليها وإلا فقد علم ما هي في الأزل، وقوله ‏{‏بيمينك‏}‏ من صلة تلك وهذا نظير قول الشاعر يزيد بن ربيعة‏:‏ ‏[‏الطويل‏]‏

عدسْ ما لعباد عليك إمارة *** نجوت وهذا تحملين طليق

قال ابن الجوهري‏:‏ وروي في بعض الآثار أن الله تعالى عتب على موسى إضافة العصا إلى نفسه في ذلك الموطن فقيل له ‏{‏ألقها‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 19‏]‏ ليرى منها العجب فيعلم أنه لا ملك له عليها ولا تضاف إليه، وقرأ الحسن وأبو عمرو بخلاف عنه «عصاي» بكسر الياء مثل غلامي، وقرأت فرقة «عصى» وهي لغة هذيل ومنه قول أبي ذؤيب‏:‏ ‏[‏الكامل‏]‏

سبقوا هويَّ وأعنقوا لهواهم *** وقرأ الجمهور «عصايَ» بفتح الياء، وقرأ ابن أبي إسحاق «عصايْ» بياء ساكنة، ثم ذكر موسى عليه السلام من منافع عصاه عظمها وجمهورها، وأجمل سائر ذلك، وقرأ الجمهور «وأهُشُّ» بضم الهاء والشين المنقوطة ومعناه أخبط بها الشجر حتى ينتثر بها الورق للغنم، وقرأ إبراهيم النخعي «وأهِش» بكسر والمعنى كالذي تقدم، وقرأ عكرمة مولى ابن عباس «وأهُسُّ» بضم الهاء والسين غير المنقوطة ومعناه أزجر بها وأخوف، وقرأت فرقة «علي غنمي» بالجر، وقرأت «غنمي» فأوقع الفعل على الغنم، وقرأت «غنْمي» بسكون النون ولا أعرف لها وجهاً، وقوله ‏{‏أخرى‏}‏ فوحد مع تقدم الجمع وهو المهيع في توابع جمع ما لا يعقل والكناية عنه فإن ذلك يجري مجرى الواحدة المؤنثة كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏الأسماء الحسنى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 8‏]‏ وكقوله ‏{‏يا جبال أوبي معه‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 10‏]‏ وقد تقدم القول في هذا المعنى غير مرة، وعصا موسى عليه السلام هي التي كان أخذها من بيت عصا الأنبياء التي كان عند شعيب حين اتفقا على الرعية، وكانت عصا آدم هبط بها من الجنة وكانت من العير الذي في ورق الريحان وهو الجسم المستطيل في وسطها وقد تقدم شرح أمرها فيما مضى‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏19- 35‏]‏

‏{‏قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى ‏(‏19‏)‏ فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى ‏(‏20‏)‏ قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى ‏(‏21‏)‏ وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آَيَةً أُخْرَى ‏(‏22‏)‏ لِنُرِيَكَ مِنْ آَيَاتِنَا الْكُبْرَى ‏(‏23‏)‏ اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى ‏(‏24‏)‏ قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي ‏(‏25‏)‏ وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي ‏(‏26‏)‏ وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي ‏(‏27‏)‏ يَفْقَهُوا قَوْلِي ‏(‏28‏)‏ وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي ‏(‏29‏)‏ هَارُونَ أَخِي ‏(‏30‏)‏ اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي ‏(‏31‏)‏ وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي ‏(‏32‏)‏ كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا ‏(‏33‏)‏ وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا ‏(‏34‏)‏ إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا ‏(‏35‏)‏‏}‏

لما أراد الله تعالى أن يدربه في تلقي النبوءة وتكاليفها أمره بإلقاء العصا ‏{‏فألقاها‏}‏ موسى فقلب الله أوصافها وأعراضها، وكانت عصا ذات شعبتين فصار الشعبتان لها فماً وصارت ‏{‏حية تسعى‏}‏ أي تنتقل وتمشي وتلتقم الحجارة، فلما رآها موسى رأى عبرة فولى مدبراً ولم يعقب، فقال الله تعالى له‏:‏ ‏{‏خذها ولا تخف‏}‏ وذلك أنه أوجس في نفسه خفية أي لحقه ما يلحق بالبشر، وروي أن موسى تناولها بكمي جبته فنهي عن ذلك، فأخذها بيده فصارت عصا كما كانت أول مرة وهي ‏{‏سيرتها الأولى‏}‏ ثم أمره الله عز وجل أن يضم يده إلى جنبه وهو الجناح استعارة ومجازاً ومنه قول الراجز‏:‏ ‏[‏الرجز‏]‏

«أضمه للصدر والجناح» *** وبعض الناس يقولون الجناح اليد وهذا كله صحيح على طريق الاستعارة، ألا ترى أن جعفر بن أبي طالب يسمى ذا الجناحين بسبب يديه حين أقيمت له الجناحان مقام اليدين بجناح طائر وكل مرعوب من ظلمة أو نحوها فإنه إذا ضم يده إلى جناحه فتر رعبه وربط جأشه فجمع الله لموسى عليه السلام تفتير الرعب مع الآية في اليد، وروي أن يد موسى خرجت بيضاء تشف وتضيء كأنها الشمس‏.‏ وقوله ‏{‏من غير سوء‏}‏، أي من غير برص ولا مثله بل هو أمر ينحسر ويعود لحكم الحاجة إليه‏.‏ وقوله ‏{‏لنريك من آياتنا الكبرى‏}‏ يحتمل أن يريد وصف الآيات بالكبر على ما تقدم من قوله ‏{‏الأسماء الحسنى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 8‏]‏، و‏{‏مآرب أخرى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 18‏]‏ ونحوه، ويحتمل أن يريد تخصيص هاتين الآيتين فإنهما أكبر الآيات كأنه قال لنريك الكبرى فهما معنيان، ثم أمره تبارك وتعالى بالذهاب إلى فرعون وهو مصعب بن الريان في بعض ما قيل، وقيل غير هذا، ولا صحة لشيء من ذلك‏.‏ و‏{‏طغى‏}‏ معناه تجاوز الحد في فساد، قوله ‏{‏قال رب اشرح لي صدري‏}‏ الآية، لما أمره الله تعالى بالذهاب الى فرعون علم أنها الرسالة وفهم قدر التكاليف فدعا الله في المعونة إذ لا حول له إلا به‏.‏ و‏{‏اشرح لي صدري‏}‏ معناه «لفهم ما يرد علي من الأمور والعقدة التي دعا في حلها هي التي اعترته بالجمرة التي جعلها في فيه حين جربه فرعون»‏.‏ وروي في ذلك أن فرعون أراد قتل موسى وهو طفل حين مد يده إلى لحية فرعون، فقالت له امرأته إنه لا يعقل، فقال بل هو يعقل وهو عدو لي، فقالت له نجربه، قال أفعل، فدعت بجمرات من نار وبطبق فيه ياقوت فقالا إن أخذ الياقوت علمنا أن يعقل وإن أخذ النار عذرناه فمد موسى يده إلى جمرة فأخذها فلم تعد على يده، فجعلها في فمه فأحرقته وأورث لسانه عقدة في كبرة أي حبسة ملبسة في بعض الحروف قال ابن الجوهري «كف الله تعالى النار عن يده لئلا يقول النار طبعي واحترق لسانه لئلا يقول موسى مكانتي» وموسى عيله السلام إنما طلب من حل العقدة قدر أن يفقه قوله، فجائزاً أن يكون ذلك كله زال، وجائزاً أن يكون بقي منه القليل، فيجتمع أن يؤتى هو سؤله وأن يقول فرعون، ولا يكاد يبين، ولو فرضناه زال جملة لكان قول فرعون سبأ لموسى بحالته القديمة‏.‏

و «الوزير» المعين القائم بوزر الأمور وهو ثقلها ويحتمل الكلام أن طلب الوزير من أهله على الجملة ثم أبدل ‏{‏هارون‏}‏ من الوزير المطلوب، ويحتمل أن يريد واجعل هارون وزيراً، فإنما ابتدأ الطلب فيه فيكون على هذا مفعولاً أولاً ب ‏{‏اجعل‏}‏‏.‏ وكان هارون عليه السلام أكبر من موسى بأربعة أعوام، وقرأ ابن عامر وحده «أَشدد» بفتح الهمزة و«أُشركه» بضمها على أن موسى أسند هذه الأفعال إلى نفسه، ويكون الأمر هنا لا يريد به النبوءة بل يريد تدبيره ومساعيه لأن النبوة لا يكون لموسى أن يشرك فيها بشراً، وقرأ الباقون «أُشدد» بضم الهمزة «وأشرك» على معنى الدعاء في شد الأزر وتشريك هارون في النبوءة وهذه في الوجه لأنها تناسب ما تقدم من الدعاء وتعضدها آيات غير هذه بطلبه تصديق هارون إياه‏.‏ و«الأزر» بمعنى الظهر قال أبو عبيدة كأنه قال شد به عوني واجعله مقاومي فيما أحاوله وقال امرؤ القيس‏:‏ ‏[‏الطويل‏]‏

بمحنية قد آزر الضال نبتها *** فجر جيوش غانمين وخيب

أي قاومه وصار في طوله، وفتح أبو عمرو وابن كثير الياء من ‏{‏أخي‏}‏ وسكنها الباقون وروي عن نافع «وأشركهو» بزيادة واو في اللفظ بعد الهاء ثم جعل موسى عليه السلام ما طلب من نعم الله تعالى سبباً يلزم كثرة العبادة والاجتهاد في أمر الله، وقوله ‏{‏كثيراً‏}‏ نعت لمصدر محذوف تقديره تسبيحاً كثيراً‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏36- 39‏]‏

‏{‏قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى ‏(‏36‏)‏ وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى ‏(‏37‏)‏ إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى ‏(‏38‏)‏ أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي ‏(‏39‏)‏‏}‏

المعنى قال الله تعالى‏:‏ قد أعطيت يا موسى طلبتك في شرح الصدر وتيسير الامر وحل العقدة إما بالكل وإما على قدر الحاجة في الإفقاه‏.‏ وإتيان هذا السؤال منه من الله عز وجل فقرن إليها عز وجل قديم منته عنده على جهة التوقيف عليها ليعظم اجتهاده وتقوى بصيرته‏.‏ وكان من قصة موسى فيما روي أن فرعون ذكر له أن خراب ملكه على يدي غلام من بني إسرائيل فأمر بقتل كل مولود يولد لبني إسرائيل، ثم إنه رأى مع أهل مملكته أن فناء بني إسرائيل يعود على القبط بالضرر إذ هم كانوا عملة الأرض والصناع ونحو هذا، فعزم على أن يقتل الوالدان سنة ويستحييهم سنة، فولد هارون في سنة الاستحياء فكانت أمه آمنة، ثم ولد موسى في العام الرابع سنة القتل فخافت أمه عليه من الذبح فبقيت مهتمة فأوحى الله إليها، قيل بملك جاء لها وأخبرها وأمرها، قال بعض من روى هذا لم تكن نبية لأنا نجد في الشرع ورواياته أن الملائكة قد كلمت من لم يكن نبياً، وقال بعضهم بل كانت أم موسى نبية بهذا الوحي، وقالت فرقة بل كان هذا الوحي رؤيا رأتها في النوم، وقالت فرقة بل هو وحي إلهام وتسديد كوحي الله إلى النحل وغير ذلك فأهمها الله إلى أن اتخذت تابوتاً فقذقت فيه موسى راقداً في فراش، ثم قذفته في يم النيل، وكان فرعون جالساً في موضع يشرف على النيل اذا رأى تابوتاً فأمر به، فسيق اليه وامرأته معه ففتح فرحمته امرأته وطلبته لتتخذه أبناً فأباح لها ذلك وروي أن ‏{‏التابوت‏}‏ جاء في الماء إلى المشرعة التي كان جواري امرأة فرعون يستقين فيها الماء فأخذن التابوت وجلبنه إليها فأخرجته وأعلمت فرعون وطلبته منه ثم إنها عرضته للرضاع فلم يقبل امرأة، فجعلت تنادي عليه في المدينة ويطاف يعرض للمراضع، فكلما عرضت عليه امرأة أباها‏.‏ وكانت أمه حين ذهب عنها في النيل بقيت مغمومة فؤادها فارغ إلا من همه فقالت لأخته اطلبي أمره في المدينة عسى أن يقع لنا منه خبر، فبينما الأخت تطوف إذ بصرت به وفهمت أمره قالت لهم أنا أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم وهم له ناصحون، فتعلقوا بها وقالوا أنت تعرفين هذا الصبي، فقالت لا، غير أني أعلم من أهل هذا البيت الحرص على التقرب الى الملكة والجد في خدمتها ورضاها، فتركوها، وسألوها الدلالة فجاءت بأم موسى فلما قربته شرب ثديها، فسرت آسية أمراة فرعون وقالت لها كوني معي في القصر، فقالت لها ما كنت لأدع بيتي وولدي ولكنه يكون عندي، قالت نعم فأحسنت إلى ذلك البيت غاية الإحسان واعتز بنوا إسرائيل بهذا الرضاع، والسبب من الملكة، وأقام موسى حتى كمل رضاعه فأرسلت إليها آسية أن جيئي بولدي ليوم كذا، وأمرت خدمها ومن لها أن يلقينه بالتحف والهدايا واللباس، فوصل إليها على ذلك وهو بخير حال وأجمل ثياب فسرت به ودخلت على فرعون ليراه ويهبه فرآه وأعجبه وقربه فأخذ موسى عليه السلام بلحية فرعون وجذبها، فاستشاط فرعون وقال هذا عدو لي وأمر بذبحه، فناشدته فيه امرأته وقالت إنه لا يعقل، فقال فرعون بل يعقل فاتفقا على تجربته بالجمر والياقوت حسبما ذكرناه آنفاً في حل العقدة، فنجاه الله من فرعون ورجع إلى أمه فشب عندها فاعتز به بنو إسرائيل إلى أن ترعرع، وكان فتى جلداً فاضلاً كاملاً فاعتزت به بنوا اسرائيل بظاهر ذلك الرضاع وكان يحميهم ويكون ضلعه معهم وهو يعلم من نفسه أنه منهم ومن صميمهم، فكانت بصيرته في حمايتهم وكيدة، وكان يعرف ذلك أعيان بني إسرائيل‏.‏

ثم إن قصة القبطي المتقاتل مع الإسرائيلي نزلت وذكرها في موضعها مستوعب، فخرج موسى عليه السلام من مصر حتى وصل إلى مدين، فكان من أمره مع شعيب ما هو في موضعه مستوعب يختص منه بهذا الموضع أنه تزوج ابنته الصغرى على رعية الغنم عشر سنين، ثم إنه اعتزم الرحيل بزوجته إلى بلاد مصر فجاء في طريقه فضل في ليلة مظلمة فرأى النار حسبما تقدم ذكره، فعدد الله تعالى على موسى في هذه الآية ما تضمنته هذه القصة من لطف الله تعالى به في كل فصل وتخليصه له من قصة إلى أخرى، وهذه الفتون التي فتنه بها أي اختبره وخلصه حتى صلح للنبوءة وسلم لها‏.‏ وقوله ‏{‏ما يوحى‏}‏ إبهام يتضمن عظم الأمر وجلالته في النعم وهذا نحو قوله تعالى ‏{‏إذ يغشى السدرة ما يغشى‏}‏ ‏[‏النجم‏:‏ 16‏]‏ وهو كثير في القرآن والكلام، و‏{‏أن‏}‏ في قوله ‏{‏أن اقذفيه‏}‏ بدل من ‏{‏ما‏}‏ والضمير الأول في ‏{‏اقذفيه‏}‏ عائد على موسى وفي الثاني على ‏{‏التابوت‏}‏، ويجوز أن يعود على ‏{‏موسى‏}‏‏.‏ وقوله ‏{‏فليلقه اليم‏}‏ خبر خرج في صيغة الأمر إذ الأمر أقطع الأفعال وأوجبها، ومنه قول النبي عليه السلام «قوموا فلأصل لكم» فأخبر الخبر في صيغة الأمر لنفسه مبالغة وهذا كثير، ومن حيث خرج الفعل مخرج الأمر حسن جوابه كذلك، و«العدو» الذي هو لله ولموسى كان فرعون ولكن أم موسى أخبرت به على الإبهام وذلك قالت لأخته قصيه وهي لا تدري أين‏.‏ ثم أخبر تعالى موسى أنه «ألقى عليه محبة» منه فقال بعض الناس أراد محبة آسية لأنها كانت من الله وكانت سبب حياته‏.‏ وقالت فرقة‏:‏ أراد القبول الذي يضعه الله في الأرض لخيار عباده، وكان حظ موسى منه في غاية الوفر‏.‏ وقالت فرقة‏:‏ أعطاء جمالاً يحبه به كل من رآه، وقالت فرقة‏:‏ أعطاء ملاحة العينين، وهذان قولان فيهما ضعف وأقوى الأقوال أنه القبول‏.‏ وقرأ الجمهور و«لِتُصنع» بكسر اللام وضم التاء على معنى ولتغذى وتطعم وتربى، وقرأ أبو نهيك «ولَتصنع» بفتح التاء، قال ثعلب معناه لتكون حركتك وتصرفك على عين مني، وقرأ أبو جعفر بن القعقاع «ولْتصنع» بسكون اللام على الأمر للغالب وذلك متجه‏.‏ وقوله ‏{‏على عيني‏}‏ معناه بمرأى مني وأمر مدرك مبصر مراعى‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏40- 41‏]‏

‏{‏إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى ‏(‏40‏)‏ وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي ‏(‏41‏)‏‏}‏

العامل في ‏{‏إذ‏}‏ فعل مضمر تقديره ومننا إذ، وتقدم تفسير هذه الآية في القصص المذكرور آنفاً‏.‏ وقرأت فرقة «تقَر» بفتح القاف، وقرأت فرقة بكسر القاف والنفس هي نفس القطبي الذي كان يقاتل الإسرائيلي فوكزه موسى فقضى عليه، و‏{‏الغم‏}‏ هم النفس وكان هم موسى بأمر من طلبه ليثأر به‏.‏ وقوله ‏{‏فتناك فتوناً‏}‏ معناه خلصناك تخليصاً‏.‏ هذا قول جمهور المفسرين‏.‏ وقالت فرقة معناه اختبرناك وعلى هذا التأويل لا يراد إلا ما اختبر به موسى بعد بلوغه وتكليفه وما كان قبل ذلك فلا يدخل في اختبار موسى وعده سنيه ‏{‏في أهل مدين‏}‏ عشرة أعوام لأنه إنما قضى أوفى الأجلين وقوله ‏{‏على قدر‏}‏ أي بميقات محدودة للنبوة التي قد أرداها الله بك ومنه قول الشاعر‏:‏ ‏[‏البسيط‏]‏

نال الخلافة إذ كانت له قدراً *** كما أتى ربه موسى على قدر

‏{‏واصطنعتك‏}‏ معناه جعلتك موضع الصنيعة ومقر الإجمال والإحسان، وقوله ‏{‏لنفسي‏}‏ إضافة تشريف، وهكذا كما تقول بيت الله ونحوه والصيام لي وعبر ب «النفس» عن شدة القرب وقوة الاختصاص‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏42- 46‏]‏

‏{‏اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآَيَاتِي وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي ‏(‏42‏)‏ اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى ‏(‏43‏)‏ فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى ‏(‏44‏)‏ قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى ‏(‏45‏)‏ قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى ‏(‏46‏)‏‏}‏

أمر الله تعالى موسى وهارون في هذه الآية بالنفوذ إلى دعوة فرعون وخاطب موسى وحده تشريفاً له ويحتمل أن هارون أوحي إليه مع ملك أن ينفذ، و‏{‏بآياتي‏}‏ معناه بعلاماتي التي أعطيتكموها من معجزة وآية ووحي وأمر ونهي كالتوراة، و‏{‏تنيا‏}‏ معناه تضعفا وتبطياً تقول وَنَا فلان في أمر كذا إذا تباطأ فيه عن ضعف ومنه قول الشاعر‏:‏ ‏[‏المضارع‏]‏

فما أنا بالواني *** ولا الضرع الغمر

والونى الكلال والفتور والفشل في البهائم والإنس، وفي مصحف ابن مسعود «ولا تهنا في ذكري» معناه ولا تلينا من قولك هين لين والقول اللين قالت فرقة‏:‏ معناه كنياه وقالت فرقة بل أمرهما بتحسين الكلمة‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذا هو الوجه، وذلك أن كل من يريد دعاء إنسان إلى أمر يكرهه فإنما الوجه أن يحرر في عبارته الذي يريد حتى لا يخل به ولا يخر منه، ثم يجتهد بعد ذلك في أن تكون عبارة لطيفة ومقابلته لينة وذلك أجلب للمراد فأمر الله تعالى موسى وهارون أن يسلكا مع فرعون إكمال الدعوة في لين من القول‏.‏ وقوله ‏{‏لعله‏}‏ معناه على رجائكما وطمعكما فالتوقع فيها إنما هو راجع إلى جهة البشر وقرأ الجمهور «يَفُرط» بفتح الياء وضم الراء ومعناه يعجل ويسرع بمكروه فينا ومنه فارط في الماء وهو الذي يتقدم القوم إليه قال الشاعر القطامي عمير بن شييم‏:‏ ‏[‏البسيط‏]‏

واستعجلوا وكانوا من صحابتنا *** كما تعجَّل فرّاط لورّاد

وقالت فرقة ‏{‏يُفرِط‏}‏ بضم الياء وكسر الراء ومعناه يشتط في إذايتنا، وقرأ ابن محيص «يُفرَط» بضم الياء وفتح الراء ومعناها أن يحمله حامل على التسرع إلينا‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏إنني معكما أسمع وأرى‏}‏‏.‏ يريد بالنصر والمعونة والقدرة على فرعون، وهذا كما تقول الأمير مع فلان إذا أردت أنه يحميه و‏{‏أسمع وأرى‏}‏ عبارتان عن الإدراك لا تخفى معه خافية تبارك الله رب العالمين‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏47- 49‏]‏

‏{‏فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآَيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى ‏(‏47‏)‏ إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى ‏(‏48‏)‏ قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى ‏(‏49‏)‏‏}‏

المعنى ‏{‏فأتيا‏}‏ فرعون فأعلماه أنكما رسولاي إليه وعبر بفرعون تحقيراً له إذ كان هو يدعي الربوبية ثم أمر بدعوته إلى أن يبعث معهما بني إسرائيل ويخرجهم من غل خدمة القبط وقد تقدم في هذه الآية دعاؤه إلى الإيمان وهذه جملة ما دعي إليه فرعون والإيمان وإرسال بني إسرائيل، والظاهر أن رسالته إليه ليست على حد إرساله إلى بني إسرائيل، وتعذيب بني إسرائيل كان ذبح أولادهم وتسخيرهم وإذلالهم والآية التي أحالا عليها هي العصا واليد وقالا ‏{‏جئناك‏}‏ والجائي بها موسى تجوزاً من حيث كانا مشتركين وقوله عليه السلام ‏{‏من اتبع الهدى‏}‏ يحتمل أن يكون آخر كلام وفصله فيقوى أن يكون السلام بمعنى التحية كأنهما رغباً بها عنه وجريا على العرف في التسليم عند الفراغ من القول فسلما على متبع الهدى وفي هذا توبيخ له ع‏:‏ وعلى هذه الجهة استعمل الناس هذه الآية في مخاطبتهم ومحاوراتهم ويحتمل أن يكون في درج القول متصلاً بقوله ‏{‏أنا قد أوحي إلينا‏}‏ فيقوى على هذا أن يكون خبراً بأن السلامة للمهتدين، وهذان المعنيان قالت كل واحد منهما فرقة، لكن دون هذا التلخيص، وقالوا ‏{‏السلام‏}‏ بمعنى السلامة وعلى بمعنى اللام أي السلام ل ‏{‏من اتبع الهدى‏}‏ ولما فرغا من المقالة التي أمر بها عن قوله ‏{‏وتولى‏}‏ خاطبهما فرعون، وفي سرد هذه الآية حذف يدل عليه ظاهر الكلام تقديره فأتياه فلما قالا جميع ما أمرا به قال لهما فرعون ‏{‏فمن ربكما‏}‏ وقوله ‏{‏يا موسى‏}‏ بعد جمعه مع هارون في الضمير، نداء بمعنى التخصيص والتوقيف إذ كان صاحب عظم الرسالة ولزيم الآيات‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏50- 52‏]‏

‏{‏قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى ‏(‏50‏)‏ قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى ‏(‏51‏)‏ قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى ‏(‏52‏)‏‏}‏

استبد موسى صلى الله عليه وسلم من حيث خصه في السؤال ثم أعلمه من صفات الله تعالى بأن لا شرك لفرعون فيه لا بوجه مجاز واختلف المفسرون في قوله ‏{‏الذي أعطى كل شيء خلقه‏}‏ فقالت فرقة معناه أعطى الذكران من كل الحيوان نوعه وخلقته أنثى ‏{‏ثم هدى‏}‏ للإيتان، وقالت فرقة بل المعنى أعطى كل موجود من مخلوقاته خلقته وصورته، أي أكمل ذلك له وأتقنه ‏{‏ثم هدى‏}‏ أي يسر شيء لمنافعه ومرافقه‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذا القول أشرف معنى وأعم في الموجودات، وقرأت فرقة «خلَقه» بفتح اللام ويكون المفعول الثاني ب ‏{‏أعطى‏}‏ مقدراً تقديره كماله أو خلقته، وقال فرعون ‏{‏فما بال القرون الأولى‏}‏ يحتمل أن يريد محاجته بحسب ما تقدم من القول ومناقضته فيه، فليس يتجه على هذا أن يريد ما بال القرون الأولى ولم يوجد أمرك عندها، فرد موسى عليه السلام علم ذلك إلى الله تعالى، ويحتمل أن يريد فرعون قطع الكلام الأول والرجوع إلى سؤال موسى عن حالة من سلف من الناس روغاناً في الحجة وحيدة وقال «البال» الحال فكأنه سألهم عن حالهم كما جاء في الحديث «يهديكم الله ويصلح بالكم» وقال النفاش إنما قال فرعون ‏{‏فما بال القرون الأولى‏}‏ لما سمع مؤمن آله يا قوم ‏{‏إني أخاف عليكم مثل يوم الأحزاب‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 30‏]‏ مثل دأب قوم نوح وعاد «الآية ورد موسى العلم إلى الله تعالى لأنه لم تأته التوراة بعد‏.‏ وقوله ‏{‏في كتاب‏}‏ يريد في اللوح المحفوظ أو فيما كتبه الملائكة من أحوال البشر‏.‏ وقرأت فرقة» لا يَضِل «بفتح الياء وكسر الضاد واختلف في معنى هذه القراءة فقالت فرقة هو ابتداء الكلام تنزيه لله تعالى عن هاتين الصفتين وقد كان الكلام تم في قوله ‏{‏في كتاب‏}‏ و‏{‏يضل‏}‏ معناه ينتلف ويعمه، وقالت فرقة بل قوله ‏{‏لا يضل ربي ولا ينسى‏}‏ من صفات الكتاب أي إن الكتاب لا يغيب عن الله تعالى، تقول العرب ضلني الشيء إذا لم أجده وأضللته أنا ومنه قول النبي صلى الله عليه حكاية عن الإسرائيلي الذي طلب أن يحرق بعد موته» لعلي أضل الله «الحديث، و‏{‏ينسى‏}‏ أظهرها ما فيه أن يعود ضميره الى الله تعالى ويحتمل أن يعود إلى الكتاب في بعض التأويلات يصفه بأنه ‏{‏لا ينسى‏}‏ أي لا يدع شيئاً، فالنسيان هنا استعارة كما قال في موضع آخر ‏{‏إلا أحصاها‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 49‏]‏ فوصفه بالإحصاء من حيث حصرت فيه الحوادث‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏53- 56‏]‏

‏{‏الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى ‏(‏53‏)‏ كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى ‏(‏54‏)‏ مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى ‏(‏55‏)‏ وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آَيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى ‏(‏56‏)‏‏}‏

انظر إن هذه الأشياء التي ذكرها موسى عليه السلام هي مما تقضي بداية العقول أن فرعون وكل بشير بعيد منها لأنه لو قال هو القادر الرازق المريد العالم ونحو هذا من العبارات لأمكن فرعون أن يغالط فيقول أنا أفعل هذا كله فإنما أتاه موسى عليه السلام بصفات لا يمكنه أن يقول إن ذلك له وقرأ اين كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر «مِهاداً» بكسر الميم وبألف، والمهاد قيل هو جمع مهد، وقيل اسم مفرد كفرش وفراش، وقرأ عاصم وحمزة والكسائي «جعل لكم الأرض مَهْداً» بفتح الميم وسكون الهاء، وقوله ‏{‏سلك‏}‏ بمعنى نهج ولحب، و«السبل» الطرق، وقوله ‏{‏فأخرجنا به‏}‏ يحتمل أن يكون كلام موسى تم عند قوله ‏{‏وأنزل من السماء ماء‏}‏ ثم وصل الله تعالى كلام موسى بإخباره لمحمد صلى الله عليه وسلم والمراد الخلق أجمع، فهذه الآيات المنبهة عيلها، و«الأزواج» هنا بمعنى الأنواع، وقوله ‏{‏شتى‏}‏ نعت للأزواج أي مختلفات، وقوله ‏{‏كلوا وارعوا‏}‏ بمعنى هي صالحة لأن يؤكل منها وترعى الغنم فيها فأخرج العبارة في صيغة الأمر لأنه أرجى الأفعال وأهدأها للنفوس، و‏{‏النهى‏}‏ جمع نهية والنهية العقل الناهي عن القبائح، وقوله تعالى ‏{‏منها خلقناكم‏}‏ يريد من الأرض، وهذا حيث خلق آدم من تراب‏.‏ وقوله ‏{‏وفيها نعيدكم‏}‏ يريد بالموت والدفن أو الفناء كيف كان وقوله ‏{‏ومنها نخرجكم‏}‏ يريد بالبعث ليوم القيامة، وقوله تعالى ‏{‏ولقد أريناه‏}‏ إخبار لمحمد صلى الله عليه وسلم عن فرعون، وهذا يؤيد أن الكلام من قوله ‏{‏فأخرجنا‏}‏ إنما هو خطاب لمحمد صلى الله عليه وسلم، وقوله ‏{‏كلها‏}‏ عائد على الآيات التي رآها لا أنه رأى كل آية لله، وإنما المعنى أن الله تعالى أراه آيات، ما بكما لها فأضاف الآيات إلى ضمير العظمة تشريفاً لها، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأبى‏}‏ يقتضي تكسب فرعون وهذا هو الذي يتعلق به الثواب والعقاب‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏57- 59‏]‏

‏{‏قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى ‏(‏57‏)‏ فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لَا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنْتَ مَكَانًا سُوًى ‏(‏58‏)‏ قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى ‏(‏59‏)‏‏}‏

هذه المقاولة من فرعون تدل على أن أمر موسى قد كان قوي وكثر متبعوه من بني إسرائيل ووقع أمره في نفوس الناس، وذلك أنها مقاولة من يحتاج إلى الحجة لا من يصدع بأمر نفسه، وأرضهم هي أرض مصر، وقرأت فرقة «لا نخلُفه» بالرفع، وقرأت فرقة «لا نخلفْه» بالجزم على جواب الأمر، و‏{‏نحن‏}‏ تأكيد للضمير من حيث احتاج الكلام إلى العطف عليه أكد، و‏{‏موعداً‏}‏ مفعول أول ل ‏{‏فاجعل‏}‏، و‏{‏مكاناً‏}‏ مفعول ثان هذا الذي اختار أبو علي ومنع أن يكون ‏{‏مكاناً‏}‏ معمولاً لقوله ‏{‏موعداً‏}‏ لأنه قد وصف وهذه الأسماء العاملة عمل الفعل إذا نعتت أو عطف عليها أو أخبر عنها أو صغرت أو جمعت وتوغلت في الاسمية بمثل هذا لم تعمل ولا تعلق بها شيء هو منها، وقد يتوسع في الظروف فتعلق بعد ما ذكرنا كقوله عز وجل‏:‏ ‏{‏ينادون لمقت الله أكبر من مقتكم أنفسكم إذ تدعون‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 10‏]‏ فقوله ‏{‏إذ‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 10‏]‏ معلق بقوله ‏{‏لمقت الله‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 10‏]‏ وهو قد أخبر عنه وإنما جاز هذا في الظروف خاصة، وكذلك منع أبو علي أن يكون قوله ‏{‏مكاناً‏}‏ قصياً على الظرف الساد مسد المفعول‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وفي هذا نظر ومنع قوم أن يكون ‏{‏مكاناً‏}‏ نصب على المفعول الثاني بتخلفه، وجوزه جماعة من النحاة ووجهه أن يتسع في أن يخلف الوعد‏.‏ وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ونافع والكسائي «سِوى» بكسر السين، وقرأ ابن عامر وعاصم وحمزة «سُوى» بضمها، والجمهور نون الواو، وقال أبو الفتح ترك الصرف هنا مشكل والذي ينبغي أن يكون محمولاً على الوقف، وقرأت فرقة «سوى» ذكره أبو عمرو عن ابن أبي عبلة ومعنى «سوى» أي عدلاً ونصفة قال أبو علي‏:‏ فكأنه قال «مكاناً» قربه منكم قربه منا ‏(‏ع‏)‏ إنما أراد أن حالنا فيه مستوية فيعم ذلك القرب وأن تكون المنازل فيه واحدة في تعاطي الحق أي لا يعترضكم فيه الرياسة وإنما تقصد الحجة‏.‏ و‏{‏سوى‏}‏ لغة في سوى ومن هذه اللفظة قول الشاعر ‏[‏موسى ابن جابر الحنفي‏]‏ ‏[‏الطويل‏]‏

وإن أباناً كان حل ببلدة *** سوى بين قيس قيس عيلان والفزر

وقالت فرقة مستوياً من الأرض لا وهد فيه ولا نشز، وقالت فرقة معناه سوى مكاناً هذا فقال موسى ‏{‏موعدكم يوم الزينة‏}‏ اتسع في الظرف من قرأه برفع «يومُ» فجعله خبراً وقرأ الحسن والأعمش والثقفي «يومَ» بالنصب على الظرف والخبر مقدر، وروي أن ‏{‏يوم الزينة‏}‏ كان عيداً لهم ويوماً مشهوراً وصادف يوم عاشوراء وكان يوم سبت وقيل هو يوم كسر الخليج الباقي إلى اليوم‏.‏ وقوله ‏{‏وأن يحشر الناس‏}‏ عطف على ‏{‏الزينة‏}‏ فهو في موضع خفض، ويحتمل أن يكون في موضع رفع على تقدير وموعدكم أن يحشر الناس، ويقلق عطفه على «اليوم» وفيه نظر، وقرأ الجمهور «حُشر الناسُ» رفعاً وقرأ ابن مسعود والخدري وجماعة «يَحشُر الناسَ» بفتح الياء وضم الشين ونصب «الناسَ» وقرأت فرقة «نحشر الناس» بالنون‏.‏ والحشر الجمع ومعناه نحشر الناس لمشاهده المعارضة والتهيؤ لقبول الحق حيث كان‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏60- 64‏]‏

‏{‏فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى ‏(‏60‏)‏ قَالَ لَهُمْ مُوسَى وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى ‏(‏61‏)‏ فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى ‏(‏62‏)‏ قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى ‏(‏63‏)‏ فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى ‏(‏64‏)‏‏}‏

المعنى «فجمع» السحرة ووعدهم وأمرهم بالإعداد لموسى، وروي أمرهم، فهذا هو ‏{‏كيده‏}‏، ‏{‏ثم أتى‏}‏ فرعون بجمعه وأهل دولته والسحرة معه وكانت عصابة لم يخلق الله أسحر منها وجاء أيضاً موسى عليه السلام ببني إسرائيل معه فقال موسى للسحرة ‏{‏ويلكم‏}‏ وهذه مخاطبة محذرة ندبهم في هذه الآية إلى قول الحق إذا رأوه وأن لا يباهتوا بكذب وقرأ ابن عباس ونافع وعاصم وأبو عمرو وابن عامر «فيَسحتكم» بفتح الياء، وقرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم «فيُسحتكم» بضم الياء وهما لغتان بمعنى يقال سحت وأسحب إذا أهلك وأذهب ومنه قول الفرزدق‏:‏ ‏[‏الطويل‏]‏

وعض زماني يا ابن مروان لم يدع *** من المال إلا مسحتاً أو مجلف

فهذا من أسحت فلما سمع السحرة هذه المقالة هالهم هذا المنزع ووقع في نفوسهم من مهابته أمر شديد ‏{‏فتنازعوا‏}‏ والتنازع يقتضي اختلافاً كان بينهم في السر أي قال بعضهم لبعض هو محق، وقال بعضهم هو مبطل، وقال بعضهم إن كان من عند الله فسيغلبنا ونحو هذا من الأقوال التي تعهد من الجموع الكثيرة في وقت الخوف كالحرب ونحو هذا، ومعلوم أن جميع تناجيهم إنما كان في أمر موسى‏.‏ وقالت فرقة إنما كان تناجيهم بالآية التي بعد هذا ‏{‏إن هذان لساحران‏}‏ ع والأظهر أن تلك قيلت علانية ولو كان تناجيهم ذلك لم يكن ثم تنازع، و‏{‏النجوى‏}‏ السرار والمساررة أي كان كل رجل يناجي من يليه، ثم جعلوا ذلك سراً مخافة فرعون أن يتبين فيهم ضعفاً لأنهم لم يكونوا حينئذ مصممين على غلبة موسى بل كان ظناً من بعضهم، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن هذان لساحران‏}‏ الآية، قرأ نافع وابن عامر وحمزة والكسائي «إنّ» مشددة النون «هذان» بألف ونون مخففة للتثنية‏.‏ وقرأ أبو عمرو وحده «إن هذين لساحران» وقرأ ابن كثير «إن هذان» بتخفيف نون «إنْ» وتشديد نون «هذان لسحران» وقرأ حفص عن عاصم «إن» بالتخفيف «هذان» خفيفة أيضاً «لساحران» وقرأت فرقة «إن هذان إلا ساحران»، وقرأت فرقة «إن ذان لساحران»، وقرأت فرقة «ما هذان إلا ساحران»، وقرأت فرقة «إن هذان» بتشديد النون من «هذان»‏.‏ فأما القراءة الأولى فقالت فرقة قوله «إن» بمعنى نعم كما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال في خطبته‏:‏ «إن الحمدُ لله» فرفع الحمد وقال ابن الزبير إن وراكبها حين قال له الرجل فأبعد الله ناقة حملتني إليك ويلحق هذا التأويل أن اللام لا تدخل في خبر الإبتداء وهو مما يجوز في الشعر ومنه قول الشاعر‏:‏ ‏[‏الرجز‏]‏

أم الحليس لعجوز شهربه *** ترضى من اللحم بعظم الرقبة

وذهبت فرقة إلى أن هذه الآية على لغة بلحارث وهو إبقاء ألف التثنية في حال النصب والخفض فمن ذلك قول الشاعر ‏[‏هوبر الحارثي‏]‏‏:‏ ‏[‏الطويل‏]‏

تزود منها بين أذناه ضربة *** دعته إلى هابي التراب عقيم

وقال الآخر‏:‏ ‏[‏الطويل‏]‏

فأطرق إطراق الشجاع ولو رأى *** مساغاً لنا باه الشجاع لصمما

وتعزى هذه اللغة لكنانة وتعزى لخثعم وقال الفراء الألف في «هذان» دعامة وليست بمجلوبة للتثنية وإنما هي ألف هذا تركبت في حال التثنية كما تقول الذي ثم تزيد في الجمع نوناً وتترك الياء في حال الرفع والنصب والخفض وقال الزجاج في الكلام ضمير تقديره إنه هذان لساحران‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وفي هذا التأويل دخول اللام في الخبر وقال بعض النحاة ألف «هذان» مشبهة هنا بألف تفعلان وقال ابن كيسان لما كان هذا بحال واحدة في رفعه ونصبه وخفضه تركت تثنيته هنا كذلك، وقال جماعة، منهم عائشة رضي الله عنها وأبو بكر، هذا مما لحن الكاتب فيه وأقيم بالصواب وهو تخفيف النون من أن ع وهذه الأقوال معترضة إلا ما قيل من أنها لغة، و«إن» بمعنى أجل ونعم أو «إن» في الكلام ضميراً وأما من قرأ «إن» خفيفة فهي عن سيبويه المخففة من الثقيلة ويرتفع بعدها الأسم ويقول الفراء هي بمعنى ما واللام بمعنى إلا ووجه سائر القراءات بينّ‏.‏ وعبر كثير عن المفسرين عن «الطريقة» بالسادة وأنها يراد بها أهل العقل والسن والحجى وحكوا أن العرب تقول فلان طريقة قومه أي سيدهم والأظهر في «الطريقة» هنا أنها السيرة والمملكة والحال التي هي عليها، و‏{‏المثلى‏}‏ تأنيث أمثل أي الفاضلة الحسنة‏.‏ وقرأ جمهور القراء «فأجمعوا» بقطع الألف وكسر الميم على معنى أنقذوا وأعزموا، وقرأ ابو عمرو وحده «فاجمعوا» من جمع أي ضموا سحركم بعضه إلى بعض، وقرأ ابن كثير «ثمَّ» بفتح الميم «ايْتوا» بسكون الياء، وقرأ أيضاً في رواية شبل عنه بكسر الميم «ثمِ ايتوا» قال أبو علي وهذا غلط ولا وجه لكسر الميم من «ثم» وقرأ الجمهور «ثم ائتوا» بفتح الميم وبهمزة بعد الألف، قوله ‏{‏صفاً‏}‏ حال أي مصطفين وتداعوا إلى هذا لأنه أهيب وأظهر لهم، و‏{‏أفلح‏}‏ معناه ظفر ببغيته و‏{‏استعلى‏}‏ معناه طلب العلو في أمره وسعى سعيه‏.‏